ربما لم يكن لديك إشعارا جديدا، ولا حاجة ملحة، ومع ذلك، انطلقت يدك لا إراديًا نحو الهاتف. هذا السلوك لم يحدث مصادفة، بل يُعد مثالًا واضحًا على ما يُعرف في علم النفس بـ "العدوى السلوكية" (Behavioral Contagion).
في هذا المقال الذي ننشره في مدونة إضاءات، نستعرض أبعاد هذه الظاهرة النفسية الشائعة، وأسبابها، وكيف تؤثر على سلوكنا اليومي دون أن نعي ذلك.
ما هي العدوى السلوكية؟
العدوى السلوكية هي ظاهرة نفسية تشير إلى ميل الأفراد لتقليد سلوكيات الآخرين دون تفكير واعٍ أو نية مسبقة، خاصة عندما يكون هذا السلوك متكررًا أو شائعًا في محيطهم.
يُشبه الأمر العدوى الفيروسية من حيث الانتقال السريع، لكنه لا يحتاج إلى اتصال مباشر، بل يكفي أن نرى سلوكًا يتكرر أمامنا حتى يبدأ بالتأثير علينا. وتُعد الهواتف المحمولة من أبرز مظاهر هذا النمط في العصر الرقمي الحديث.
كيف يعمل هذا التأثير؟
عند
مشاهدة شخص ما يستخدم هاتفه، يدخل العقل فورًا في حالة تشبه "المحاكاة
العقلية" للسلوك.
ويشارك في ذلك نوع
خاص من الخلايا العصبية تُسمى "الخلايا العصبية المرآتية"
(Mirror Neurons)، وهي خلايا تنشط حين نراقب سلوك شخص آخر، وكأننا نحن من يقوم به.
هذه الخلايا تلعب دورًا كبيرًا في تعلم الأطفال، والتعاطف مع الآخرين، ولكنها أيضًا مسؤولة عن ميلنا لتقليد أفعال الآخرين تلقائيًا، بما في ذلك فتح الهاتف، والضحك، والتثاؤب، أو حتى تعديل وضعية الجلوس.
لماذا الهاتف تحديدًا؟
هناك عدة أسباب تجعل من الهاتف الذكي مرشحًا مثاليًا لسلوكيات العدوى السلوكية:
1- السلوك المتكرر والمألوف:
نحن نستخدم الهواتف عشرات المرات يوميًا، لذا أصبح السلوك مألوفًا جدًا لعقلنا. عندما نراه لدى الآخرين، لا يحتاج دماغنا إلى تفسير معقد لتقليده.
2- الفضول والاستكشاف:
رؤية
شخص يتفاعل مع شاشة هاتفه قد يُطلق في أذهاننا تساؤلًا لا واعيًا:
"هل
هناك شيء مهم فاته عليّ؟"
فنقوم نحن بفتح
الهاتف لنتحقق أيضًا، حتى لو لم يكن هناك ما يستدعي.
3- الخوف من الإقصاء (FOMO):
الخوف
من أن يفوتنا شيء مهم (FOMO: Fear of Missing Out) يدفعنا تلقائيًا للبحث عن أي تحديث أو
تفاعل اجتماعي جديد.
فعندما يستخدم شخص
آخر هاتفه، نستشعر أننا خارج "دائرة الاتصال"، فنعود للانخراط.
4- الهروب الاجتماعي:
في المواقف الجماعية الصامتة أو المحرجة، يصبح الهاتف مخرجًا نفسيًا. وعندما يقوم شخص بكسر الصمت بالنظر إلى هاتفه، فإنه يُبرر لنا أن نفعل الأمر نفسه.
هل يؤثر السياق الاجتماعي؟
نعم، وبشكل كبير. فالعدوى السلوكية أقوى:
- كلما كان الشخص الآخر قريبًا منك اجتماعيًا (مثل صديق أو زميل).
- كلما زاد عدد الأشخاص الذين يقومون بالسلوك نفسه.
- كلما كنت في بيئة انتظار أو فراغ، حيث تقل المثيرات الأخرى.
ومن اللافت أن بعض التجارب النفسية أظهرت أن الأشخاص في قاعة انتظار، إذا بدأ أحدهم باستخدام الهاتف، فإن الآخرين سرعان ما يقتدون به، حتى لو لم يكن لديهم سبب حقيقي لذلك.
التأثيرات اليومية للعدوى الرقمية
العدوى السلوكية في استخدام الهاتف لا تقف عند لحظة المشاهدة، بل تتعداها إلى:
- نمط الاستخدام: فتح التطبيقات نفسها التي يستخدمها الآخرون.
- طريقة الإمساك بالهاتف: مثل رفع الهاتف إلى مستوى العين أو التصفح أثناء المشي.
- التفاعلات الاجتماعية: كالتحقق من الرسائل عند رؤية شخص آخر يرد على رسالة.
بعبارة أخرى، نحن لا نُقلّد فقط "الفتح"، بل قد نقلّد كيف ومتى نستخدم الهاتف.
هل نستطيع مقاومة هذه العدوى؟
من الصعب مقاومة سلوك تلقائي، خاصة حين يحدث بسرعة ودون وعي. لكن هناك بعض الطرق التي تساعد:
- الوعي الذاتي: مجرد إدراكنا بأننا نفعل ذلك "عدوًى" كفيل بكسر السلسلة.
- إشغال اليدين والذهن: عند الشعور بالرغبة اللاواعية في فتح الهاتف، قم بفعل آخر بديل، مثل القراءة أو التفكير في أمر ما.
- تقنين استخدام الهاتف في المساحات الجماعية: لتقليل التأثر البصري بالآخرين.
نحن أكثر قابلية للتأثر مما نظن
رؤية شخص آخر يستخدم هاتفه قد تبدو تفصيلًا بسيطًا في يومنا، لكنها تعكس قوة التأثير الاجتماعي غير المباشر، وكيف يمكن للسلوكيات أن تنتقل بين الأفراد كما تنتقل الموجات في بحيرة ساكنة.
ففي عالم يزداد ترابطًا، ويقل فيه الانتباه، تصبح العدوى السلوكية الرقمية إحدى سمات العصر الحديث، لا تهدد الخصوصية فقط، بل أيضًا الاستقلالية النفسية في قراراتنا الصغيرة واليومية.
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه