هل يمكنك أن تتخيل أن جهاز المشي ( التريدميل Treadmill ) الذي تستخدمه اليوم في النادي الرياضي أو تراه في المنازل، كان في يومٍ من الأيام آلة تعذيب تُستخدم في السجون؟
نعم، ما يبدو لنا الآن وسيلة للحفاظ على اللياقة البدنية ووسيلة للراحة النفسية، وُلد أصله من رحم الألم والعقاب!
عجلة المشي: عقوبة لا ترحم
في أوائل القرن التاسع عشر، وفي قلب السجون البريطانية، ابتكر المهندس والناشط الاجتماعي ويليام كوبت آلة سُميت "عجلة المشي (Tread-Wheel) لم تكن الغاية منها تحسين صحة السجناء أو إعادة تأهيلهم، بل كانت تهدف لإخضاعهم لعقوبة جسدية قاسية.
كانت تلك العجلة عبارة عن أسطوانة ضخمة مزودة بدرجات، يُجبر السجناء على السير عليها لساعات طويلة، في حركة متكررة أشبه بتسلق سلّم لا نهاية له.
لم يكن الأمر مجرد مشي ممل، بل كان جهدًا مرهقًا لا طائل منه، وغالبًا ما كان يُستخدم لإدارة معدات ثقيلة كالمضخات أو مطاحن الحبوب.
في بعض السجون، كان السجين يُجبر على "المشي في مكانه" لأكثر من 10 ساعات يوميًا، يصعد خلالها آلاف الدرجات عموديًا دون أن يخطو للأمام خطوة واحدة! كانت تلك العقوبة تُسبب الإرهاق الشديد، وفي كثير من الأحيان تؤدي إلى إصابات جسدية ومعنوية بالغة.
من السجون إلى غرف الفحص الطبي
مع مرور الوقت، بدأت آلة العذاب هذه تختفي تدريجيًا من السجون مع تغيّر النظرة إلى حقوق الإنسان وأنظمة العقوبة. لكن الفكرة وراء "المشي الثابت" لم تختفِ كليًا، بل أعيد استخدامها في سياق مختلف تمامًا.
في عام 1952، استخدم الطبيب الأمريكي روبرت بروس نسخة مطوّرة من جهاز المشي لإجراء اختبارات طبية على القلب والتنفس. أطلق عليه اسم "اختبار بروس"، وكان يعتمد على رفع درجة الصعوبة تدريجيًا لتقييم استجابة الجسم للمجهود.
وهكذا، بدأت قصة جديدة للجهاز… من العيادات الطبية!
الولادة الفعلية لجهاز المشي الرياضي
في أواخر الستينيات، أحدث المهندس الأمريكي ويليام ستوب نقلة نوعية. فقد طور أول جهاز مشي منزلي باسم PaceMaster 600، فأتاح للناس إمكانية ممارسة التمارين الرياضية داخل منازلهم، بعيدًا عن الطقس السيء أو ازدحام النوادي الرياضية. ومن هنا انطلق التريدميل ليصبح رمزًا للعناية الذاتية واللياقة.
مفارقة التاريخ .. من الألم إلى الأمل
رغم أن الجهاز اليوم يُستخدم لتحسين الصحة وخسارة الوزن وتقوية القلب، إلا أن جذوره تعود إلى آلة صُممت لإذلال الإنسان وتعذيبه. إنه درس تاريخي يعكس كيف يمكن للتكنولوجيا أن تتغيّر وتُستخدم لأهداف متباينة تمامًا بمرور الوقت.
فكل خطوة نخطوها اليوم على جهاز المشي هي في حقيقتها خطوة نحو العافية… لكنها في الماضي كانت خطوة نحو الإنهاك وايقاع الألم!
إن قصة اختراع جهاز المشي ( التريدميل) تذكرنا بأن الأشياء ليست كما تبدو دائمًا. ما نراه اليوم أداة للراحة، قد يكون بالأمس أداة للقسوة. وما بدأ كعقوبة مرهقة، تحول إلى طريق للعلاج… ووسيلة للشفاء الجسدي والنفسي.
ففي كل مرة تمشي فيها على التريدميل، تذكر أن التاريخ يمشي معك — وأن لكل خطوة قصة وحكاية.
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه