مدونة ثقافية تعنى بالإبداع والابتكار والتنمية البشرية

اخر الأخبار

Post Top Ad

الجمعة، 16 مايو 2025

لماذا نركن سياراتنا بجانب سيارات الآخرين رغم أن الموقف فارغ؟ تفسير نفسي لسلوك شائع

 


هل سبق لك أن وصلت إلى موقف سيارات فارغ تمامًا، وركنت سيارتك في زاوية بعيدة، ثم عدت بعد قليل لتجد سيارة أخرى متوقفة بجانبك تمامًا، رغم وجود عشرات الأماكن الشاغرة؟ 

 

هذا السلوك البشري المألوف يثير الاستغراب عند الكثيرين، وقد يتحول إلى نكتة يومية أو منشور ساخر على وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن خلف هذا التصرف البسيط تختبئ تفسيرات نفسية عميقة ومدهشة تسلط الضوء على طبيعة الإنسان وعلاقته بالمكان والآخرين .

 

السلوك ليس عشوائيًا... بل يخضع لقوانين نفسية!

 

قد يبدو في الظاهر أن هذا التصرف عشوائي أو غير منطقي، لكن علماء النفس والاجتماع يؤكدون أن الإنسان يتخذ قراراته في الفضاءات العامة (مثل مواقف السيارات) استنادًا إلى عوامل لا شعورية وتأثيرات اجتماعية عميقة.

دعونا نستعرض أبرز التفسيرات التي قدمها علم النفس لفهم هذا السلوك الشائع.

 

1. التأثير الاجتماعي: عندما نبحث عن "الإشارة" من الآخرين

 

يعتمد الإنسان بشكل كبير على ما يُعرف بـ الدليل الاجتماعي أو Social Proof في اتخاذ قراراته.

فعندما يرى شخصٌ ما سيارة متوقفة في مكان معين، يستنتج - دون وعي - أن هذا المكان مناسب وآمن للتوقف. السيارة الأولى تصبح بمثابة "إشارة موافقة"، أو شهادة غير لفظية بأن المكان معتمد، ما يجعل الشخص أكثر راحة في اتخاذ قرار مشابه.

هذا ما يُعرف في علم النفس الاجتماعي بنظرية التأثير الاجتماعي، حيث يتأثر سلوك الفرد بسلوك الآخرين، خاصة في المواقف غير الواضحة أو التي تتضمن خيارًا شخصيًا.

 

2. الراحة المعرفية: لماذا نتجنب التفكير الزائد؟

 

يُحب العقل البشري الاقتصاد في الجهد. اتخاذ قرار حول أين يجب أن تركن سيارتك في موقف فارغ يتطلب تحليلًا بصريًا وتقييمًا لعدة معايير: القرب من المدخل، الظل، الخطر المحتمل، وغير ذلك.

ولكن عندما يجد الشخص سيارة متوقفة بالفعل في نقطة معينة، فإنه يميل لتقليد هذا القرار الجاهز، تجنبًا للجهد الذهني. هذا ما يُعرف بـ الراحة المعرفية (Cognitive Ease).

تُظهر الدراسات أن الدماغ يفضل الحلول الجاهزة أو المسارات التي سبق أن استخدمها الآخرون لأنها أكثر أمانًا وأسهل من حيث الجهد العقلي.

 

3. المجال السلوكي: كيف يغيّر وجود سيارة واحدة سلوك الآخرين؟

 

عالم النفس الشهير كورت لوين قدّم ما يُعرف بـ نظرية المجال السلوكي (Behavioral Field Theory)، والتي تفترض أن البيئة تؤثر على السلوك بطريقة ديناميكية. وجود سيارة واحدة في موقف فارغ يخلق "مركز جذب" نفسي، أي أنه يُغير من طبيعة المكان، ويؤثر في الطريقة التي يرى بها الآخرون ذلك الفضاء.

بمجرد وجود سيارة واحدة، لم يعد المكان فارغًا تمامًا، بل أصبح يحتوي على نقطة مرجعية تؤثر في حركة الآخرين وتوجيه قراراتهم.

 

4. الرغبة في القرب الاجتماعي: لا نحب العزلة حتى ونحن في سياراتنا

 

رغم أن قرار التوقف يبدو فرديًا وماديًا، إلا أن الإنسان بطبيعته كائن اجتماعي يميل إلى القرب من الآخرين، حتى في حال عدم وجود تفاعل مباشر. هذا ما يُعرف في علم النفس بـ Need for Affiliation أو الحاجة للانتماء.

ركن السيارة بجانب أخرى قد يمنح بعض الأشخاص شعورًا غير واعٍ بالانتماء أو الطمأنينة، وكأنهم "ليسوا وحدهم"، حتى وإن لم يكن هناك أي احتكاك فعلي.

 

5. تأثير القطيع: حينما نتبع السلوك السائد دون وعي

 

سلوك القطيع (Herd Behavior) هو أحد المفاهيم الأساسية في علم النفس الاجتماعي، ويعني ميل الأفراد لتقليد أفعال الآخرين بدافع الأمان أو القبول.

فعندما يركن شخص سيارته بجانب سيارة أخرى، فهو ينسجم مع سلوك "بدأه غيره"، مما يُشعره بالثقة في قراره.

هذا النوع من السلوك الجماعي يُلاحظ في أماكن كثيرة، مثل الوقوف في طوابير، واختيار المطاعم، أو حتى عند عبور الشارع.

 

دراسات علمية تؤكد: السلوك المكاني ليس بريئًا !

 

في دراسة نُشرت في Journal of Environmental Psychology، تبيّن أن الأشخاص يتخذون قراراتهم في الفضاءات العامة بناءً على إشارات بيئية، وعلى وجود الآخرين بشكل خاص.

ويظهر ذلك في كيفية اختيار أماكن الجلوس في قاعة كبيرة، أو أماكن الوقوف في الباص، أو حتى طريقة ركن السيارة.

كما كشفت دراسات أخرى أن الناس يُفضلون الوقوف بالقرب من عناصر مألوفة أو موثوقة، بما فيها البشر أو حتى أشياء تدل على وجودهم، مثل السيارات.

 

ما هو عفوي في الظاهر، مدروس في الباطن

 

في النهاية، يبدو أن قرار ركن السيارة بجانب أخرى في موقف خالٍ ليس مجرد صدفة أو عادة متكررة، بل هو نتاج عمليات عقلية ونفسية معقدة تحدث دون وعي منا.

إنه مثال بسيط على كيف يتأثر سلوكنا بما يفعله الآخرون، وعلى الدور الخفي الذي تلعبه البيئة في توجيه قراراتنا.

فعندما ترى شخصًا يركن سيارته بجانبك في موقف فارغ، لا تستغرب... ربما كان يبحث، من حيث لا يدري، عن القرب، الأمان، أو ببساطة عن إشارة تقول له: "هنا المكان الصحيح".

 

أمجد قاسم

X@amjad

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

Post Top Ad

الصفحات