أعلان الهيدر

الأربعاء، 7 أبريل 2021

الرئيسية حاتم الطائي رمز الكرم العربي

حاتم الطائي رمز الكرم العربي

 

الكرم من أخلاق العرب التي ألبستهم ثياب المجد والشرف ، وملكتهم أزمة المكارم . كانوا شعوبا وقبائل ، يتفاخرون بالأحساب والأنساب ، وكان الجود أجل مفاخرهم ، وأبقى مآثرهم .، تنافسوا فيه ، فبلغوا غايته ، وضربوا فيه بسهم وافر .
 
ومن أجوادهم المساميح ، وأبطالهم المغاوير ، وعظمائهم الأمجاد ، وفتيانهم الأنجاد ، حاتم بن عبد الله بن سعد الطائی ، سار بذكره المثل ، فطبق السهل والجبل ، وتأرج شذا جوده فعطر الأندية ، وطار صيته في جزيرة العرب فأنجد وأتهم ( بلغ نجد وتهامة ) ، ثم عرج على سائر الآفاق ، فترك الألسنة رطبة بالثناء عليه ، لاهجة بتعداد مآثره ، وسرد مكارمة ، وجعلت أنفس الكرام تتسرم آثاره ، وتترسم أخباره ، فخلدت سيرته ، وإن تكن طوته الأيام ، وصار رهن الترب والرجام.
 
ردت صنائعه عليه حياته                    فكأنه من نشرها منشور
 
نشأ حاتم في جبل طییء من جزيرة العرب بين الصخور والنجود ، فألف اقتحام الأخطار ، واصبح في الحرب بطلها الظفر ، واكتسب النخوة والإباء ، فكان أثبت من الطود قلبا ، وأمضى من الصارم عزما ، وأسمى من النجم نفسا ، وترعرع بين لسن مقاول ، تحت سماء جزيرة العرب الصافية ، وشمسها الوضاءة ، ونجومها الزاهرة ، ودرج فوق صحرائها الفسيحة ، ورمالها العفر فصفت قريحته ، ورفت في الشعر عبارته ، وعذب بیانه ، فبينا هو أحد الفتيان في الميدان ، إذا هو فارس في حلبة البيان.
 
وقد شب حاتم بين قوم يشترون الحمد بالعطاء ، وأرضعته لبان الكرم أم كريمة ، سارت بجودها الركبان . فلا عجب أن كان في القوم سیدا لا يباری ، وفي المكرمات غيثا مدرارا ، وصار السخاء له عادة لزمته في غناه وفقره . وكم عنفه المعنفون ، ولج في لومه اللائمون ، فطوى عن كل ذلك كسحا ، وشرح بالحمد صدرا ، وأتلف الطريف والتالد ، واخر الثناء الخالد .
 
وقد علم الأقوام لو أن حاتما               اراد ثراء المال كان له وفر
 
لقد كان يثرى فما يبطره الغنى ، ويعسر فما يستذله الإملاق ، بل كان جنابه مخصبا وربعه للعفاة مرتعا ، لا يغيره فقر ولا غنى ، يفيض على القوم من خيره ، ويرضيهم في غناه وفقره ، وما أكرم نفسه وأعفها إذ يقول !
 
وقد ينال منه الفقر ، ويعضه العدم بنابه ، ثم ينزل به الضيف ، وقد بات اهله على الطوى ، وأولاده من الجوع يئنون ، فينحر لضيفه راحلته أحوج ما يكون إليها ، ولو أمسك ما لامه في ذلك لائم ، ولكنها العادة ملكت نفسه ، ولم يجد عنها محيصا .
 
وقد جمع إلى شجاعته النادرة ، وسخاوة نفسه العالية ، كثيرا من الأخلاق الفاضلة ، فكان عفيفا ذا مروءة وحياء ، إذا أسر أطلق ، واذا عاهد وفي ، وكان لا يقتل وحید أمه .
 
ويدلنا على أن الجود فيه موروث ، أن أمه عتبة بنت عبد الله من أندى النساء يدا ، لم تكن تخيب محتاجا سائلا ، ولا تبقى من المال باقيا ، تأتي على جميع مالهم ، فلما أحسوا ألمها ، أعطوها طائفة من الإبل ، فجاءتها أمرأة من هوازن ، فأنهبتها جميع ما ملكته ، ولم يزدها الحرمان إلا استرسالا في الكرم .
 
ولا ترعرع حاتم جعل يخرج طعامه ، فإن وجد من يؤاكله أكل ، وإلا طرح الطعام ، فلما أحس أبوه منه ذلك ، كلفه رعى الإبل ، فكان يتفقد الناس فلا يجدهم . وبينما هو ذات يوم يتفقدهم ، أقبل ثلاثة من حاملي لواء الشعر في الجاهلية ، يريدون النعمان ، فسألوه هل من قرى ؟ فقال : تسألونني عن القرى والإبل أمامكم ؟ فنزلوا ، ثم نحر لهم ثلاثا من کرام الإبل فقالوا ، إنما أردنا اللبن ، وكانت بكرة تكفينا ، فقال : إني لا أعرف ذلك . ولكني رأيت وجوها مختلفة ، وألوانا متباينة ، فعلمت أن البلاد غير واحدة ، فأردت أن أكرم في أشخاصكم قبائلكم جميعا ، فامتدحوه فقال : لقد زاد فضلكم على ما قريتكم به ، فقد عاهدت الله أن أضرب عراقيب الإبل أو تقسموها ، ففعلوا ، فنال كل واحد تسعة وتسعون بعيرا . ولما علم أبوه ذلك ، عول على ألا يساكنه ، فتركه وانصرف . ولكن ذلك لم يثن حاتما عن الجود ، بل ازداد بن الكرم استمساكا ، وما أعز نفسه وأسخاها ، وأثبت عزيمته وأقوى شكيمته  .
 
وقد تزوج حاتم ماوية بنت عفزر ، وهي من أشرف بيوتات العرب ، فلما رأت ما هو عليه من السرف فارقته ، فدعا ولده وهبط بطن واد ، ثم قدم ضيفة على بيت ماوية يريد حائما ، فضاقت بهم ذرعا ، فلما انتهت إليه وأخبرته خبر ضيفه ، فرح واستبشر ، وأتى بناقتين فنحرها ، فأكلوا منهما ، فقالت ماوية : هذا الذي تركتك من أجله ، وستترك ولدك ولا مال لهم . ولكن نفس حاتم المفطورة على السخاء ، لم يثنها عن المعروف لوم .
 
ومن عجيب ما يروى عنه ، أنه خرج في الشهر الحرام في حاجة له ، فلما كان بأرض عنزة استجار به أمين أسير ، وناداه : يا أبا سفانة أهلكني الإسار. فقال : ويلك بنی عنزة ، وأقام في القيد مكان الأسير ، حتى فدى نفسه فأطلقوه . وتلك مكرمه يتضاءل عندها كل ثناء .
 
وحدثت ماوية قالت : كل أمره عجب ، فقد أصابت الناس جدب ، فأهلكت الخوف والظلف ، فأدركنا الجوع ليلة ، فما زال يعلل ولديه حتى ناما . ثم تناوم إشفاقا عليه وما بي من نعاس ، وبینا نحن كذلك أقبل شخص بباب الخباء فقال حاتم : من هذا ؟ فإذا امرأة تقول : يا أبا سفانة ، أتيتك من عند صبية يتعاوون كالذئاب من الجوع فقال : « على بهم فلاشبعتهم ، فقمت مسرعة وقلت له ماذا يا حاتم ؟ وما نام ولداك إلا بالتعليل فقال « لأشبعنهم مع ولديك . » ثم قام إلى فرسه وذبحها، وأضرم النار ، وأيقظ ولديه ، وأعطى المرأة شفرة وقال لها: « اشتوى وكلي » وذهب إلى بيوت الحي فنبه الناس ، فأقبلوا يأكلون ، وهو جالس ناحية ، ممتقعا بردائه ، ينظر اليهم قرير العين بما أسداه من معروف . وكان حاتم إذا أظلم الليل ، يقيم غلاما له يوقد النار بارض مرتفعة ، ليهتدى به الضيوف ويقول له :
 
أوقد فإن الليل ليل قر                 والریح یا غلام ريح صر
 
فأين من هذه النفس الكريهة نفوس تتواری من الضيف فرقا ، وتنفر منه إشفاقا على متاع زائل ، وځطام بائد ، حرصا على جمع المال وكنزه ، ثم تتركه أكداسا لوارث يذروه ذات اليمين وذات الشمال ، فلا تخلف إلا المذمة ولعذاب الآخرة أشد .
 
إن الاقتصاد حسن مطلوب ، ولكن البخل والشح خلق مرذول ، فالعاقل من يجمع بين الاقتصاد والسخاء ، ويجعل في ماله حقا معلوما للسائل والمحروم ، وقد سرى الجود في عقب حاتم ، فكانت سفانة من أجود نساء العرب ، تهب للناس جميع ما تصل إليه يدها ، ولا غرو فالولد سر أبيه .
 
وقد ذاع فضل حاتم ، حتى ملأ نبؤه أسماع العرب والعجم ، فتاقت النفوس إلى معرفة أحواله ، والوقوف على أخباره ، فأرسل قيصر الروم حاجبا من حجابه ، في طلب فرس لحاتم سمع أنه يضن بها ويعيرها ، ويبالغ في إكرامها ، وكان يبغي بذلك سبر غوره  ، ومعرفة مدى سخائه ، فلما بلغ الحاجب دیار طیی ، ودخل على حاتم ، بالغ في حفاوته به على غير علم بما جاء له ، ولما أبطأ الرعاة بالإبل في المرعى ، قام فذبح لضيفه الفرس ، وقدم إليه الطعام ثم أعلمه الحاج بأنه رسول قیصر ، وأنه يستميحه فرسه التي اشتهرت بالعتاقة بين الأفراس ، فاغتم حاتم وأخبره بما فعل ، فأكبر الحاجب فعله وقال : « لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا .»
 
هذا قل من كثر مما يؤثر عن حاتم طيئ ، وهو كاف في إظهار ما انطوت عليه نفسه من حب الخير ، والكلف بالمعروف ، والرغبة الصادقة في اصطناع المكارم ، أما شعره فرائق ، حسن الأسلوب ، جزل العبارة ، يصور غلو نفسه ، وسعة فضله . وإن من يحيل الفكر في تضاعيف ألفاظه ومعانيه ، ليرى نفس ذلك الجواد العظيم ، وصورة من المكارم والعفة ، والمروءة والشجاعة والإخلاص . فشعر حاتم مراة نفسه ، وصحيفة مجده .
 
وقد مات حاتم قبيل الإسلام ، وحكي عن على كرم الله وجهه أنه قال « یا سبحان الله ما أزهد كثيرا من الناس في الخير ! ، عجبت لرجل يجيئه أخوه في حاجة ، فلا يرى نفسه للخير أهلا . فلو كنا لا نرجو جنة ، ولا نخاف نارا ، ولا ننتظر ثوابا ، ولا نخشى عقابا ، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق ، فإنها تدل على سبيل النجاح .» فقام رجل فقال : « فداؤك أبي وأمي يا أمير المؤمنين . أسمعته من رسول الله ؟ » قال : « نعم ، وما هو خير منه . لما أتينا بسبايا طي ، كان في الناس جارية حسناء ، تقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالت : « أيا محمد ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فان رأيت أن تتخلى عنى ، فلا تشمت بي أحياء العرب ، فإنى بنت سيد قومی . كان أبي يفك العانی ويحمي الذمار ، ويقرى الضيف ، ويشبع الجائع ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويغشي السلام ، ولم يرد حاجة قط . أنا بنت حاتم  الطائي .» فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : يا جارية ، هذه صفة المؤمن . خلوا عنها ، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

يتم التشغيل بواسطة Blogger.