الكرم من أخلاق العرب التي ألبستهم
ثياب المجد والشرف ، وملكتهم أزمة المكارم . كانوا شعوبا وقبائل ، يتفاخرون
بالأحساب والأنساب ، وكان الجود أجل مفاخرهم ، وأبقى مآثرهم .، تنافسوا فيه ،
فبلغوا غايته ، وضربوا فيه بسهم وافر .
ومن أجوادهم المساميح ، وأبطالهم
المغاوير ، وعظمائهم الأمجاد ، وفتيانهم الأنجاد ، حاتم بن عبد الله بن سعد الطائی
، سار بذكره المثل ، فطبق السهل والجبل ، وتأرج شذا جوده فعطر الأندية ، وطار صيته
في جزيرة العرب فأنجد وأتهم ( بلغ نجد وتهامة ) ، ثم عرج على سائر الآفاق ، فترك
الألسنة رطبة بالثناء عليه ، لاهجة بتعداد مآثره ، وسرد مكارمة ، وجعلت أنفس
الكرام تتسرم آثاره ، وتترسم أخباره ، فخلدت سيرته ، وإن تكن طوته الأيام ، وصار
رهن الترب والرجام.
ردت صنائعه عليه حياته فكأنه من نشرها منشور
نشأ حاتم في جبل طییء من جزيرة العرب
بين الصخور والنجود ، فألف اقتحام الأخطار ، واصبح في الحرب بطلها الظفر ، واكتسب
النخوة والإباء ، فكان أثبت من الطود قلبا ، وأمضى من الصارم عزما ، وأسمى من
النجم نفسا ، وترعرع بين لسن مقاول ، تحت سماء جزيرة العرب الصافية ، وشمسها
الوضاءة ، ونجومها الزاهرة ، ودرج فوق صحرائها الفسيحة ، ورمالها العفر فصفت
قريحته ، ورفت في الشعر عبارته ، وعذب بیانه ، فبينا هو أحد الفتيان في الميدان ،
إذا هو فارس في حلبة البيان.
وقد شب حاتم بين قوم يشترون الحمد بالعطاء ، وأرضعته لبان
الكرم أم كريمة ، سارت بجودها الركبان . فلا عجب أن كان في القوم سیدا لا يباری ،
وفي المكرمات غيثا مدرارا ، وصار السخاء له عادة لزمته في غناه وفقره . وكم عنفه
المعنفون ، ولج في لومه اللائمون ، فطوى عن كل ذلك كسحا ، وشرح بالحمد صدرا ،
وأتلف الطريف والتالد ، واخر الثناء الخالد .
وقد علم الأقوام لو أن حاتما اراد ثراء المال كان له وفر
لقد كان يثرى فما يبطره الغنى ، ويعسر
فما يستذله الإملاق ، بل كان جنابه مخصبا وربعه للعفاة مرتعا ، لا يغيره فقر
ولا غنى ، يفيض على القوم من خيره ، ويرضيهم في غناه وفقره ، وما أكرم نفسه وأعفها
إذ يقول !
وقد ينال منه الفقر ، ويعضه العدم
بنابه ، ثم ينزل به الضيف ، وقد بات اهله على الطوى ، وأولاده من الجوع يئنون ،
فينحر لضيفه راحلته أحوج ما يكون إليها ، ولو أمسك ما لامه في ذلك لائم ، ولكنها
العادة ملكت نفسه ، ولم يجد عنها محيصا .
وقد جمع إلى شجاعته النادرة ، وسخاوة
نفسه العالية ، كثيرا من الأخلاق الفاضلة ، فكان عفيفا ذا مروءة وحياء ، إذا أسر
أطلق ، واذا عاهد وفي ، وكان لا يقتل وحید أمه .
ويدلنا على أن الجود فيه موروث ، أن
أمه عتبة بنت عبد الله من أندى النساء يدا ، لم تكن تخيب محتاجا سائلا ، ولا تبقى من
المال باقيا ، تأتي على جميع مالهم ، فلما أحسوا ألمها ، أعطوها طائفة من الإبل ،
فجاءتها أمرأة من هوازن ، فأنهبتها جميع ما ملكته ، ولم يزدها الحرمان إلا
استرسالا في الكرم .
ولا ترعرع حاتم جعل يخرج طعامه ، فإن
وجد من يؤاكله أكل ، وإلا طرح الطعام ، فلما أحس أبوه منه ذلك ، كلفه رعى الإبل ،
فكان يتفقد الناس فلا يجدهم . وبينما هو ذات يوم يتفقدهم ، أقبل ثلاثة من حاملي
لواء الشعر في الجاهلية ، يريدون النعمان ، فسألوه هل من قرى ؟ فقال : تسألونني عن
القرى والإبل أمامكم ؟ فنزلوا ، ثم نحر لهم ثلاثا من کرام الإبل فقالوا ، إنما
أردنا اللبن ، وكانت بكرة تكفينا ، فقال : إني لا أعرف ذلك . ولكني رأيت وجوها
مختلفة ، وألوانا متباينة ، فعلمت أن البلاد غير واحدة ، فأردت أن أكرم في أشخاصكم
قبائلكم جميعا ، فامتدحوه فقال : لقد زاد فضلكم على ما قريتكم به ، فقد عاهدت الله
أن أضرب عراقيب الإبل أو تقسموها ، ففعلوا ، فنال كل واحد تسعة وتسعون بعيرا .
ولما علم أبوه ذلك ، عول على ألا يساكنه ، فتركه وانصرف . ولكن ذلك لم يثن حاتما
عن الجود ، بل ازداد بن الكرم استمساكا ، وما أعز نفسه وأسخاها ، وأثبت عزيمته وأقوى
شكيمته .
وقد تزوج حاتم ماوية بنت عفزر ، وهي
من أشرف بيوتات العرب ، فلما رأت ما هو عليه من السرف فارقته ، فدعا ولده وهبط بطن
واد ، ثم قدم ضيفة على بيت ماوية يريد حائما ، فضاقت بهم ذرعا ، فلما انتهت
إليه وأخبرته خبر ضيفه ، فرح واستبشر ، وأتى بناقتين فنحرها ، فأكلوا منهما ،
فقالت ماوية : هذا الذي تركتك من أجله ، وستترك ولدك ولا مال لهم . ولكن نفس حاتم
المفطورة على السخاء ، لم يثنها عن المعروف لوم .
ومن عجيب ما يروى عنه ، أنه خرج في
الشهر الحرام في حاجة له ، فلما كان بأرض عنزة استجار به أمين أسير ، وناداه : يا
أبا سفانة أهلكني الإسار. فقال : ويلك بنی عنزة ، وأقام في القيد مكان الأسير ،
حتى فدى نفسه فأطلقوه . وتلك مكرمه يتضاءل عندها كل ثناء .
وحدثت ماوية قالت : كل أمره عجب ، فقد
أصابت الناس جدب ، فأهلكت الخوف والظلف ، فأدركنا الجوع ليلة ، فما زال يعلل ولديه حتى ناما
. ثم تناوم إشفاقا عليه وما بي من نعاس ، وبینا نحن كذلك أقبل شخص بباب الخباء
فقال حاتم : من هذا ؟ فإذا امرأة تقول : يا أبا سفانة ، أتيتك من عند صبية يتعاوون
كالذئاب من الجوع فقال : « على بهم فلاشبعتهم ، فقمت مسرعة وقلت له ماذا يا حاتم ؟
وما نام ولداك إلا بالتعليل فقال « لأشبعنهم مع ولديك . » ثم قام إلى فرسه وذبحها،
وأضرم النار ، وأيقظ ولديه ، وأعطى المرأة شفرة وقال لها: « اشتوى وكلي » وذهب إلى
بيوت الحي فنبه الناس ، فأقبلوا يأكلون ، وهو جالس ناحية ، ممتقعا بردائه ، ينظر
اليهم قرير العين بما أسداه من معروف . وكان حاتم إذا أظلم الليل ، يقيم غلاما له
يوقد النار بارض مرتفعة ، ليهتدى به الضيوف ويقول له :
أوقد فإن الليل ليل قر والریح یا غلام ريح صر
فأين من هذه النفس الكريهة نفوس
تتواری من الضيف فرقا ، وتنفر منه إشفاقا على متاع زائل ، وځطام بائد ، حرصا على جمع المال
وكنزه ، ثم تتركه أكداسا لوارث يذروه ذات اليمين وذات الشمال ، فلا تخلف إلا المذمة ولعذاب الآخرة أشد .
إن الاقتصاد حسن مطلوب ، ولكن البخل
والشح خلق مرذول ، فالعاقل من يجمع بين الاقتصاد والسخاء ، ويجعل في ماله حقا
معلوما للسائل والمحروم ، وقد سرى الجود في عقب حاتم ، فكانت سفانة من أجود نساء
العرب ، تهب للناس جميع ما تصل إليه يدها ، ولا غرو فالولد سر أبيه .
وقد ذاع فضل حاتم ، حتى ملأ نبؤه
أسماع العرب والعجم ، فتاقت النفوس إلى معرفة أحواله ، والوقوف على أخباره ، فأرسل
قيصر الروم حاجبا من حجابه ، في طلب فرس لحاتم سمع أنه يضن بها ويعيرها ، ويبالغ
في إكرامها ، وكان يبغي بذلك سبر غوره ،
ومعرفة مدى سخائه ، فلما بلغ الحاجب دیار طیی ، ودخل على حاتم ، بالغ في حفاوته به
على غير علم بما جاء له ، ولما أبطأ الرعاة بالإبل في المرعى ، قام فذبح لضيفه
الفرس ، وقدم إليه الطعام ثم أعلمه الحاج بأنه رسول قیصر ، وأنه يستميحه فرسه التي
اشتهرت بالعتاقة بين الأفراس ، فاغتم حاتم وأخبره بما فعل ، فأكبر الحاجب فعله وقال :
« لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا .»
هذا قل من كثر مما يؤثر عن حاتم طيئ ،
وهو كاف في إظهار ما انطوت عليه نفسه من حب الخير ، والكلف بالمعروف ، والرغبة
الصادقة في اصطناع المكارم ، أما شعره فرائق ، حسن الأسلوب ، جزل العبارة ، يصور
غلو نفسه ، وسعة فضله . وإن من يحيل الفكر في تضاعيف ألفاظه ومعانيه ، ليرى نفس
ذلك الجواد العظيم ، وصورة من المكارم والعفة ، والمروءة والشجاعة والإخلاص . فشعر
حاتم مراة نفسه ، وصحيفة مجده .
وقد مات حاتم قبيل الإسلام ، وحكي عن
على كرم الله وجهه أنه قال « یا سبحان الله ما أزهد كثيرا من الناس في الخير ! ،
عجبت لرجل يجيئه أخوه في حاجة ، فلا يرى نفسه للخير أهلا . فلو كنا لا نرجو جنة ،
ولا نخاف نارا ، ولا ننتظر ثوابا ، ولا نخشى عقابا ، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم
الأخلاق ، فإنها تدل على سبيل النجاح .» فقام رجل فقال : « فداؤك أبي وأمي يا أمير
المؤمنين . أسمعته من رسول الله ؟ » قال : « نعم ، وما هو خير منه . لما أتينا
بسبايا طي ، كان في الناس جارية حسناء ، تقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
وقالت : « أيا محمد ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فان رأيت أن تتخلى عنى ، فلا تشمت
بي أحياء العرب ، فإنى بنت سيد قومی . كان أبي يفك العانی ويحمي الذمار ، ويقرى
الضيف ، ويشبع الجائع ، ويفرج عن المكروب ، ويطعم الطعام ، ويغشي السلام ، ولم يرد
حاجة قط . أنا بنت حاتم الطائي .» فقال
لها النبي صلى الله عليه وسلم : يا جارية ، هذه صفة المؤمن . خلوا عنها ، فإن
أباها كان يحب مكارم الأخلاق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه