مدونة ثقافية تعنى بالإبداع والابتكار والتنمية البشرية

اخر الأخبار

Post Top Ad

السبت، 17 مايو 2025

لماذا نضغط زر المصعد عدة مرات رغم أننا نعلم أنه لن يأتي أسرع؟ تفسير نفسي لسلوك مألوف

 


جميعنا تقريبًا وقعنا في هذا الموقف: نقف أمام باب المصعد، نضغط الزر، ننتظر… لا يحدث شيء.

 

فنضغط الزر مرة أخرى. وربما ثالثة أو رابعة! رغم أننا نعلم تمامًا أن المصعد لن يتأثر بعدد مرات الضغط، إلا أننا لا نستطيع مقاومة الرغبة في تكرار العملية.

 

هل هو فقدان صبر؟ هل هي عادة؟ أم أن هناك شيئًا أعمق في النفس البشرية يدفعنا لهذا السلوك المتكرر وغير المنطقي؟

 

علم النفس يجيبنا: الأمر ليس عبثًا، بل هو انعكاس لآليات نفسية وسلوكية معقدة تحكم سلوك الإنسان في مواقف الترقب وفقدان السيطرة.

 

سلوك مألوف… لكن غير عقلاني

 

من الناحية التقنية، ضغط زر المصعد مرة واحدة يكفي لإرسال الإشارة إلى النظام الإلكتروني. الزر ليس كزر الجرس في البيت، ولا يؤدي الضغط المتكرر إلى استجابة أسرع.

 

ومع ذلك، لا يزال الكثيرون يمارسون هذا السلوك وكأنهم "يستعجلون" المصعد بالحاحهم المتكرر.

 

فما الذي يحدث في داخلنا حين نفعل ذلك؟ للإجابة، نحتاج إلى الغوص في مفاهيم علم النفس الإدراكي والسلوكي.

 

1. وهم التحكم: عندما نعتقد أن بوسعنا التأثير

 

أحد المفاهيم النفسية المركزية في هذا السياق هو ما يُعرف بـ "وهم التحكم" (Illusion of Control).

 

يشير هذا المفهوم إلى ميل الإنسان للاعتقاد بأنه قادر على التأثير في نتائج لا يمكنه التحكم بها، فقط لأنه قام بفعل معين.

 

في حالة المصعد، الضغط على الزر أكثر من مرة يُعطي الشخص شعورًا زائفًا بالتحكم، وكأنه يُسرّع وصول المصعد أو "يؤكد" الطلب للنظام.

 

وهذا الإحساس بالتحكم - وإن كان خاطئًا - يُخفف من القلق ويمنح العقل شعورًا بالاطمئنان.

 

2. القلق من الانتظار: الدماغ لا يحب الغموض

 

الانتظار من دون معلومات هو أحد أكثر الأمور التي تثير التوتر لدى الإنسان، خصوصًا في بيئة لا تعطي إشارات واضحة.

 

فعندما لا نسمع صوت المصعد أو لا نرى حركة المؤشر، يبدأ الدماغ بالدخول في حالة قلق منخفض الشدة.

 

الضغط المتكرر على الزر هو استجابة لتخفيف هذا القلق. إنه بمثابة "تفريغ نفسي" أو رد فعل على حالة الغموض واللا يقين.

 

أي أن الزر يصبح وسيلة لتفريغ القلق أكثر مما هو وسيلة لتحريك المصعد.

 

3. العادة السلوكية والتكرار غير الواعي

 

في بعض الأحيان، يكون هذا السلوك ناتجًا عن البرمجة العاطفية والعادات المتكررة. لقد رأينا آباءنا أو أصدقاءنا يفعلون نفس الشيء، فقمنا بتقليده دون أن نحلله منطقيًا. ومع مرور الوقت، أصبحت لدينا استجابة تلقائية: إذا تأخر المصعد، نضغط مجددًا.

 

هذه السلوكيات تُشبه ما نفعله عندما نُكرر النقر على زر الماوس عند تجمّد الحاسوب، أو نضغط أزرار المصعد "فتح" و"إغلاق" رغم أن النظام لا يستجيب لذلك. كلها تعبير عن بحثنا عن رد فعل فوري يلبي حاجتنا للسيطرة.

 

4. سلوك "الزر الوهمي": وهم الأزرار التي لا تعمل

 

العديد من أزرار المصاعد حول العالم، خصوصًا في المدن الكبيرة، هي في الحقيقة أزرار وهمية أو غير مفعلة. دراسة شهيرة نُشرت في صحيفة The New York Times عام 2003 أوضحت أن حوالي 80% من أزرار "إغلاق الباب" في المصاعد الأمريكية لا تعمل، وتمت برمجتها بعد عام 1990 لتعطيلها لأسباب تتعلق بالسلامة.

 

ومع ذلك، يواصل الناس ضغطها بانتظام، ظنًا منهم أنهم يؤثرون في النظام. هذا يُعزز فكرة أن الضغط على الزر ليس وظيفة ميكانيكية بقدر ما هو طقس نفسي يمنح الشعور بالسيطرة والانشغال.

 

5. الضغط الاجتماعي: لا نحب أن نبدو بلا رد فعل

 

حينما يكون هناك أشخاص آخرون ينتظرون معنا، نشعر بحاجة لــ"فعل شيء"، كي لا نظهر كأننا بلا مبادرة أو اهتمام. لذا، قد نضغط الزر حتى لو كنا نعلم أنه لن يُحدث فرقًا، فقط لكي نبدو فاعلين أمام الآخرين.

 

هذا يُعرف في علم النفس الاجتماعي بـ التصرفات الرمزية (Symbolic Actions)، وهي أفعال لا تؤدي وظيفة مباشرة، لكنها تنقل رسالة اجتماعية.

 

6. علم النفس الإدراكي: كيف تُفسر أدمغتنا التأخير؟

 

الدماغ البشري مبرمج لتوقع النتائج السريعة عند الضغط على الأزرار، وهي آلية تطورت مع استخدام التكنولوجيا الحديثة.

 

نحن نربط بين الضغط والاستجابة الفورية. لذا، عندما لا يأتي المصعد بعد ضغط الزر، يحدث خلل في التوقع، ما يدفعنا إلى إعادة المحاولة تلقائيًا.

 

الأمر مشابه لتجربة طفل يضغط زر اللعبة ولا تعمل، فيكرر الضغط مرات عدة قبل أن يدرك أن اللعبة تحتاج إلى بطارية.

 

الخلاصة: سلوك بسيط يكشف الكثير عن النفس البشرية

 

ما يبدو وكأنه سلوك تافه - الضغط على زر المصعد عدة مرات - هو في الواقع مرآة لعدد من الدوافع النفسية العميقة: وهم السيطرة، والحاجة لتقليل التوتر، والعادات، والضغط الاجتماعي، وحتى الخلل في توقع الاستجابة.

 

إنه مثال آخر على كيف تسير كثير من تصرفاتنا اليومية دون وعي، مدفوعة برغبتنا في التحكم بالعالم من حولنا، حتى إن لم يكن ذلك ممكنًا تقنيًا.

 

أمجد قاسم

X@amjad

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

Post Top Ad

الصفحات