عندما تقود سيارتك في شارع غير مألوف، وفجأة يراودك الشك أنك ربما اتخذت منعطفًا خاطئًا، أو بدأت تشعر بالضياع، فإن أول رد فعل يصدر منك غالبًا ما يكون... خفض صوت الراديو.
قد يبدو هذا السلوك عاديًا أو غير ملفت للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة ظاهرة نفسية مثيرة للاهتمام؛ لماذا نلجأ إلى تقليل الضوضاء السمعية عند حاجتنا للتركيز البصري أو الذهني؟ وهل للأمر جذور في علم النفس العصبي والمعرفي؟
في هذا المقال من مدونة "إضاءات"، نستعرض هذا السلوك الغريب الذي نمارسه جميعًا، ونكشف عن تفسيراته النفسية والعصبية، وما يخبرنا به عن طريقة عمل الدماغ البشري.
تعدد المهام وحدود الدماغ
لفهم سبب هذا
السلوك، يجب أولاً أن نعرف شيئًا عن قدرة الدماغ على تعدد المهام (Multitasking).
ففي حين أن
الإنسان يستطيع أداء أكثر من مهمة في نفس الوقت، إلا أن أدمغتنا لا تعمل بكفاءة
عالية عند الانشغال بمهام تتطلب تركيزًا إدراكيًا عميقًا في آنٍ واحد.
إن الاستماع إلى الموسيقى، خاصة إذا كانت تحتوي على كلمات، يتطلب معالجة سمعية وذهنية، بينما محاولة التنقل في طريق غير مألوف تتطلب تركيزًا بصريًا وتحليليًا.
وعندما يشعر السائق بالضياع، فإن الدماغ يقوم تلقائيًا بإعادة تخصيص الموارد الإدراكية.
اذ أن خفض صوت الراديو هو وسيلة لاواعية لتقليل "الحمل المعرفي" (Cognitive Load) كي يتمكن السائق من التركيز على المهمة الأكثر أهمية: إيجاد الطريق الصحيح.
ظاهرة الانتباه الانتقائي
من أبرز مفاتيح
فهم هذا التصرف هو مفهوم "الانتباه الانتقائي" (Selective
Attention)، وهي القدرة على تركيز انتباهنا على محفز
واحد وتجاهل باقي المحفزات.
فعندما نشعر بالارتباك في القيادة، يقوم دماغنا بعزل المحفزات غير الضرورية — مثل صوت الموسيقى أو الضوضاء الخارجية — ليتفرغ لما يعتبره أكثر أهمية: قراءة اللافتات، تحليل الاتجاهات، تذكر الطريق أو ملاحظة المعالم.
خفض صوت الراديو هو تطبيق عملي لهذه الآلية العصبية. إنه بمثابة “كتم” للمؤثرات غير المهمة من أجل تحسين جودة الانتباه للمحيط.
الموسيقى والتأثير على معالجة المعلومات
تلعب الموسيقى
دورًا عاطفيًا ومعرفيًا كبيرًا في حياتنا، لكنها أيضًا تمثل نوعًا من التشويش
عندما نحتاج إلى التركيز المكثف.
تشير أبحاث علم النفس العصبي إلى أن الدماغ يعالج الموسيقى والكلمات في مناطق متداخلة مع المناطق المسؤولة عن الإدراك المكاني واتخاذ القرار، مما قد يؤدي إلى "تنافس إدراكي" (Cognitive Interference).
هذا التداخل يجعلنا نشعر بالتوتر والارتباك في لحظات الحاجة لاتخاذ قرارات سريعة — مثل تحديد الاتجاه الصحيح في طريق غير معروف.
وبالتالي، يلجأ العقل إلى تقليل مصادر التشتت عبر خفض الصوت، وكأننا نقول للعالم: "اسكت قليلاً، أحاول أن أفكر!"
ارتباط الشعور بالسيطرة بمستوى الضوضاء
من التفسيرات
الأخرى التي يقدمها علماء النفس هو أن خفض الصوت يمنح السائق إحساسًا بالسيطرة (Sense of Control).
عندما نفقد
السيطرة على ما حولنا — كأن نشعر بأننا ضللنا الطريق — نلجأ لا شعوريًا إلى
السيطرة على ما نستطيع تغييره، مثل مستوى صوت الراديو.
هذا الإجراء البسيط يمنحنا شعورًا وهميًا بأن الأمور تحت السيطرة، ما يساعد على تهدئة التوتر، ويمنحنا مساحة ذهنية للتفكير بهدوء.
السلوك التلقائي والعادات الثقافية
إن هذا التصرف
أصبح لدى كثيرين سلوكًا تلقائيًا اكتسبوه من الخبرة الشخصية أو من المحيط الثقافي.
فمع تكرار التجربة — الدخول في طريق خاطئ مع تشغيل الموسيقى — تتكون علاقة شرطية في أذهاننا بين الحاجة إلى التفكير وخفض الصوت.
وبمرور الوقت، يصبح هذا السلوك لاواعيًا تمامًا، ويُمارس دون تفكير.
لماذا يهمنا هذا السلوك؟
قد يبدو خفض صوت
الراديو عند الضياع مجرد عادة بريئة، لكنه يسلط الضوء على كثير من الجوانب المثيرة
في علم النفس المعرفي.
إنه يفتح بابًا لفهم كيفية تعامل أدمغتنا مع التشتت، وأهمية تقليل الضوضاء في بيئات تتطلب تركيزًا عاليًا، بل ويطرح تساؤلات عن بيئات العمل والدراسة وتأثير الخلفيات الصوتية على الأداء العقلي.
باختصار فإن السلوكيات اليومية التي نمارسها دون تفكير كثيرًا ما تحمل في طياتها تفسيرات نفسية عميقة.
فخفض صوت الراديو عند الشعور بالضياع ليس مجرد تصرف
عشوائي، بل هو انعكاس لآليات الدماغ في إدارة الانتباه وتقليل التشتت.
في النهاية، يذكرنا هذا السلوك البسيط بأن
الدماغ البشري، رغم تعقيده، يفضل العمل في بيئة هادئة عندما يواجه تحديات تتطلب
أقصى درجات التركيز.
ففي المرة القادمة التي تجد فيها نفسك تبحث عن طريق، لا تتفاجأ عندما تمتد يدك تلقائيًا إلى زر الصوت، هذا فقط دماغك يحاول مساعدتك بطريقته الخاصة!
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه