من المثير للتأمل أن كثيرًا من الظواهر الطبيعية والأنشطة البشرية تتبع نمطًا موحدًا في الاتجاه: عكس عقارب الساعة.
وقد لا ننتبه في حياتنا اليومية إلى هذا التفصيل، لكنه يعكس انسجامًا عميقًا بين الحركة البشرية والأنظمة الكونية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، توجيه العدائين في السباقات إلى الركض عكس عقارب الساعة.
فما السبب وراء هذا الاتجاه؟ ولماذا يظهر بوضوح في الطبيعة، وحتى في الشعائر الدينية؟
التحول التاريخي في سباقات الجري
في دورة الألعاب الأولمبية الحديثة الأولى في أثينا عام
1896، كانت سباقات الجري تُقام باتجاه عقارب الساعة. ومع ذلك، لاحظ الرياضيون أن
هذا الاتجاه لا يمنحهم الراحة البدنية اللازمة، بل كان يسبب لهم شعورًا بالتعب غير
الطبيعي وألمًا في بعض الحالات.
هذه الملاحظات دفعت الهيئات الرياضية، بحلول عام 1913، إلى اعتماد اتجاه الجري عكس عقارب الساعة في جميع السباقات الرسمية، وهو النظام المعمول به حتى اليوم .
التحليل العلمي: هل الاتجاه يؤثر على الأداء؟
تشير الأبحاث إلى أن معظم البشر يستخدمون اليد اليمنى، ما
يعني سيطرة نصف الدماغ الأيسر لديهم، وهو المسؤول عن الحركات الدقيقة والتنسيق.
وبناءً على ذلك، فإن الدوران بعكس عقارب الساعة يسمح باستخدام الذراع اليسرى الخارجية في التوازن والدفع، مما يساهم في تعزيز الأداء وتخفيف الضغط على القلب والرئتين.
كذلك، من الناحية البصرية والحركية، يجد الدماغ البشري سهولة أكبر في تتبع الحركة عندما تكون بعكس عقارب الساعة، خاصةً عند الالتفاف أو الانعطاف في مضمار دائري، وهذا بدوره يقلل من التوتر العصبي لدى العدائين.
انسجام الاتجاه مع الطبيعة
ليس البشر وحدهم من يميلون إلى الاتجاه المعاكس لعقارب
الساعة، بل الكون نفسه يبدو وكأنه صُمم على هذا النمط. وفيما يلي بعض الأمثلة
البارزة:
· دوران الأرض حول محورها: الأرض تدور من الغرب إلى الشرق، ما يعني أنها تدور عكس عقارب الساعة .
· دوران الأرض حول الشمس: يتم أيضًا بعكس عقارب الساعة، وهو ما يُشاهد من منظور أعلى فوق القطب الشمالي.
· دوران القمر حول الأرض: القمر يتبع نفس النمط في حركته المدارية.
· دوران الإلكترونات حول نواة الذرة: في النماذج التبسيطية (مثل نموذج بور)، توصف الإلكترونات بأنها تدور عكس عقارب الساعة.
· دوران الكواكب حول الشمس: جميع الكواكب في المجموعة الشمسية (باستثناء حالات شاذة في الدوران الذاتي مثل كوكب الزهرة) تدور حول الشمس بعكس عقارب الساعة.
· دوران الشمس والمجموعة الشمسية داخل مجرة درب التبانة: هذا الدوران أيضًا يتم بعكس عقارب الساعة.
· دوران المجرات: تُظهر الدراسات أن غالبية المجرات التي يمكن رصدها تدور عكس عقارب الساعة، على الأقل من وجهة نظرنا في الأرض.
الطواف حول الكعبة: انسجام روحي مع الكون
من أبرز المظاهر البشرية التي تتبع هذا النمط الكوني،
الطواف حول الكعبة المشرفة. فمنذ أكثر من 1400 عام، يؤدي المسلمون شعيرة الطواف
بعكس عقارب الساعة، مما يعكس، انسجامًا روحانيًا مع النظم الكونية.
ويُعتقد أن هذا الاتجاه يرمز إلى العودة إلى الأصل، وإلى حركة الحياة والطبيعة.
الطواف في ثقافات أخرى
ليس فقط المسلمون يطوفون بعكس عقارب الساعة، بل بعض الطقوس الدينية القديمة مثل طواف الحجاج حول المعابد الهندوسية والبوذية تتبع نفس الاتجاه أحيانًا، مما يعكس نمطًا فطريًا أو كونيًا.
ظواهر إضافية تدور بعكس عقارب الساعة
· الأعاصير في نصف الكرة الشمالي: تدور الأعاصير في هذا النصف من الكرة الأرضية عادةً بعكس عقارب الساعة نتيجة لتأثير كوريوليس.
· حركة دوران المياه في بعض المغاسل: في بعض الحالات، وعند ظروف محددة، يمكن أن تتجه حركة الماء عند التفريغ إلى عكس عقارب الساعة، خاصة في نصف الكرة الشمالي.
· الدوامات الجوية العملاقة (Cyclones): تتبع نفس الاتجاه.
· دوران الأقمار الصناعية في المدارات القطبية بعض الأقمار الصناعية، خصوصًا تلك المستخدمة في التصوير أو الأرصاد الجوية، تُطلق في مدارات تمر من القطب إلى القطب وتدور غالبًا بعكس عقارب الساعة لتكون متزامنة مع حركة الأرض للحصول على تغطية شاملة.
· دوران الثقوب السوداء (Black Holes) بعض الثقوب السوداء، خاصة التي تُرصد في أنظمة ثنائية، تُظهر علامات دوران بعكس عقارب الساعة بالنسبة لمستوى قرص التراكم (accretion disk) حولها، وفقًا للبيانات المأخوذة من الأشعة السينية.
· أسراب الأسماك والطيور بعض الأنواع من الأسماك والطيور تشكل أسرابًا تتحرك في دوائر، وقد لوحظ أن هذه الحركة في كثير من الأحيان تكون بعكس عقارب الساعة لأسباب تتعلق بالتنسيق البصري والعصبي داخل السرب.
· تمارين اليوغا والطاقة (Pranayama وChakras) بعض مدارس اليوغا والطاقة تؤمن بأن الطاقة (Prana) تتدفق داخل الجسم في مسار حلزوني عكس عقارب الساعة عبر مراكز الشاكرات (chakras)، خاصة في تمارين التنفس والتأمل.
الظاهرة المتكررة للدوران عكس عقارب الساعة في الطبيعة
والأنشطة البشرية ليست مصادفة، بل تشير إلى نمط كوني ربما يرتبط بتوازن فيزيائي أو
بيولوجي.
فمن حركة الجزيئات إلى دوران الكواكب والمجرات، إلى طقوس الطواف والجري الرياضي، نرى اتجاهاً واحداً يتكرر بثبات: عكس عقارب الساعة. وقد يكون هذا أحد تجليات الانسجام العميق بين الإنسان والكون الذي يعيش فيه.
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه