عبقرية ليست فطرية فحسب
يبدأ المؤلف الهنغاري لازلو بولغار (László Polgár) كتابه لا تفسد عبقريتك! (Nevelj zsenit!)" المعروف باللغة الإنجليزية بعنوان "Bring Up Genius!" برفض الاعتقاد السائد بأن العبقرية هبة يولد بها القليل من الناس فقط. وفقًا له، العبقرية تُصنع بالتربية الصحيحة، ويمكن لأي طفل أن يصبح عبقريًا إذا أُتيحت له بيئة مناسبة، وتمت تربيته وفق أسس معرفية ونفسية مدروسة منذ سنوات الطفولة المبكرة .
يقول بولغار: "العباقرة لا يولدون، بل يُربّون". هذه العبارة هي حجر الزاوية في نظريته التربوية، التي طبقها على بناته الثلاث: سوزان، وصوفيا، وجوديت بولغار، واللواتي أصبحن بطلات عالميات في الشطرنج، وتجاوزن كثيرًا من أقرانهن من الذكور، في مجال كان يحتكره الرجال.
الفصل الأول: وضع فرضية للتجربة
في بداية مشواره التربوي، طرح بولغار فكرة جريئة: إذا تم تربية الأطفال منذ سن مبكرة على أسس أكاديمية صارمة، في بيئة داعمة، فسيصلون إلى مستويات عالية من التميز والعبقرية. لم يكن هدفه تعليم أطفاله الشطرنج فقط، بل إثبات أن أي تخصص، حتى لو كان علميًا أو فنيًا، يمكن أن يتحول إلى مجال للإبداع العبقري إذا تم التعامل معه كجزء من الحياة اليومية.
اختار هو وزوجته كلارا، وهي معلمة من أصل أوكراني، أن يتفرغوا لتجربة هذه الفرضية مع أطفالهما، متخلّين عن التعليم التقليدي، وملتحقين بتعليم منزلي صارم، مليء بالتدريب اليومي، والتركيز على تنمية الذكاء والمنطق والانضباط الذاتي.
الفصل الثاني: بيئة التعلم المُثلى
وفقًا لبولغار، يبدأ التعليم منذ الولادة تقريبًا. البيئة التي خلقها في المنزل كانت تشبه ورشة تعليمية، مليئة بالكتب، والألغاز، والألعاب الفكرية، وأدوات الرياضيات، مع جدولة يومية محكمة.
ومن المبادئ الأساسية التي اعتمدها:
- التعلم عبر اللعب والتكرار.
- التحفيز الإيجابي المستمر بدلًا من العقاب.
- الاستقلالية الفكرية، بتشجيع الأطفال على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم.
- العلاقة الوثيقة بين الأهل والأبناء، حيث كانوا يقضون معظم أوقاتهم معًا في التعلم والمناقشة.
يرى بولغار أن تربية العباقرة لا تتطلب موارد مالية ضخمة، بل تتطلب الالتزام والانضباط والرغبة الصادقة في بناء عقل طفل مفكر.
الفصل الثالث: اختيار مجال التخصص
اختار بولغار مجال الشطرنج لعدة أسباب:
- هو علم ومنطق وفن في آنٍ واحد.
- يمكن قياس التقدم فيه بموضوعية من خلال التصنيفات والبطولات.
- لا يتطلب أدوات باهظة أو سفر كثير في البداية.
بدأ تعليم بناته الشطرنج في سن الرابعة تقريبًا. ومع مرور الوقت، تحولت اللعبة إلى ميدان تفوق، ففازت سوزان ببطولات دولية في سن مبكرة، ثم لحقت بها صوفيا وجوديت، التي أصبحت أصغر أستاذة دولية (Grandmaster) في التاريخ، وتغلبت على أبطال العالم الذكور مثل كاسباروف.
الفصل الرابع: المبادئ النفسية للتفوق
من أبرز النقاط النفسية التي ناقشها بولغار في كتابه:
- الثقة بالنفس: يرى أن تنمية الثقة بالنفس تبدأ بالنجاحات الصغيرة، والتشجيع المتكرر.
- التوازن بين التواضع والطموح: يجب غرس القيم الإنسانية، وعدم التفاخر بالتفوق.
- عدم الإكراه: التربية الصارمة لا تعني القسوة أو الضغط، بل التحفيز القائم على المتعة والاكتشاف.
- التغذية العاطفية: لا يجب أن يطغى الجانب العقلي على المشاعر، فالعلاقة الدافئة بين الآباء والأبناء ضرورية لتفتح الذكاء العاطفي.
الفصل الخامس: التعليم المدرسي التقليدي مقابل التعليم المنزلي
ينتقد بولغار بشدة نظام التعليم المدرسي التقليدي، ويرى أنه يقتل الإبداع، ويكرّس الحفظ دون فهم، ويعجز عن رعاية الأطفال الموهوبين.
ولهذا اختار هو وزوجته تعليم أطفالهما منزليًا، عبر مناهج مكثفة صمموها بأنفسهم، مع إشراك الأطفال في عملية التخطيط والتقييم، ودمج التعليم بالحياة اليومية.
كانوا يستخدمون قصص الشطرنج لشرح الجغرافيا، والرياضيات، واللغات، ويشاهدون الأفلام الوثائقية كجزء من التعليم، ويشجعون الأسئلة والفضول.
الفصل السادس: الانتقادات التي واجهها
واجه بولغار انتقادات شديدة من المجتمع التربوي والطبي، واتُّهم بأنه "يجرّب" بأطفاله، ويضغط عليهم أكثر من اللازم. لكن مع مرور الوقت، أثبتت النتائج المبهرة لبناته أن تجربته كانت ناجحة.
لم يفرض على بناته أن يستمروا في الشطرنج بعد سن البلوغ، بل عرض عليهن الاستمرار أو التوقف، فاخترن الاستمرار لأنهن أحببن اللعبة ووجدن أنفسهن فيها.
الفصل السابع: هل يمكن تعميم التجربة؟
يؤكد بولغار أن تجربته قابلة للتعميم، شرط توفر الرغبة والجدية، ويقدم نصائح عملية للآباء والمربين:
- لا تنتظر المدرسة لتبدأ تعليم طفلك.
- خصّص وقتًا يوميًا لتعليم منتظم.
- اجعل التعلم ممتعًا ومتصلًا بالحياة.
- لا تستهين بقدرات الطفل.
- تعلّم معه، وكن قدوة له في حب المعرفة.
التربية مشروع حضاري
يختم بولغار كتابه برسالة واضحة: الأطفال يولدون بإمكانات مذهلة، لكن البيئة هي ما يحدد مصيرهم. العبقرية ليست حلمًا بعيدًا، بل نتيجة عمل طويل وصبر ورؤية واضحة.
يعتبر بولغار نفسه "معلّمًا قبل أن يكون أبًا"، ويؤمن أن التربية هي أرقى مشروع حضاري يمكن أن يشارك فيه الإنسان.
أهمية الكتاب اليوم
يُعد كتاب "Bring Up Genius!" من الكتب الملهمة في ميدان التربية والتعليم، وخاصة لأولئك الذين يهتمون بتعليم الأطفال الموهوبين. وهو يدعو لإعادة التفكير في مفاهيمنا التربوية، وتشجيع الأسر على لعب دور أكثر فاعلية في صناعة العقول لا مجرد رعايتها .
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه