خدعة "الوقت المناسب"
في لحظات التردد والشك، نقنع أنفسنا بأن ما نحتاجه فقط هو "الوقت المناسب". نؤجل قراراتنا، أحلامنا، وحتى تغييراتنا المصيرية، منتظرين لحظة نادرة تتوفر فيها الظروف المثالية، المشاعر المناسبة، والفرص المتكاملة.
لكن الحقيقة الصادمة التي يكتشفها كثيرون بعد فوات الأوان هي أن الوقت المناسب... لا يأتي أبدًا.
الانتظار كآلية دفاع نفسي
من منظور علم النفس، تأجيل اتخاذ القرار بحجة "انتظار اللحظة المناسبة" ليس إلا آلية دفاعية تُعرف باسم "rationalization" أو "التبرير المنطقي"، حيث يحاول العقل إخفاء الخوف من الفشل أو التغيير تحت قناع عقلاني يبدو مقنعًا.
نحن نخاف المجازفة، فنخلق لأنفسنا عذرًا منطقيًا يبدو ناضجًا: "ليس الآن، الظروف ليست مناسبة".
الواقع أن هذا التأجيل لا يحميك من الخطر بقدر ما يجمّلك في حالة من الجمود.
حين تقول لنفسك: "سأبدأ مشروعي عندما أمتلك رأس مال كافٍ" أو "سأتحدث في الاجتماع القادم لأن هذا ليس الوقت المناسب"، فأنت عمليًا تعلّق حياتك على احتمال مستقبلي غامض.
متى كان الوقت "مناسبًا" حقًا؟
اسأل نفسك: كم مرة في حياتك بدأت شيئًا مهمًا عندما كانت الظروف مثالية بالكامل؟ من النادر أن تجد لحظة خالية من العقبات أو التحديات.
الأشخاص الناجحون ليسوا من انتظروا الوقت المناسب، بل هم من بدأوا في الوقت المتاح — حتى لو كان الوقت غير مثالي، والظروف ضبابية، والمخاوف كثيرة.
الكاتب ستيفن بريسفيلد، مؤلف كتاب The War of Art، يشير إلى أن مقاومة البدء غالبًا ما تكون نابعة من عقلنا الخائف من الإبداع، من التغيير، من أي شيء جديد.
وكلما اقتربت أكثر من جوهر ما يجعلك تتقدم فعلًا، زادت هذه المقاومة. لكن الكتّاب، الفنانون، المبدعون وروّاد الأعمال يعرفون هذا الشعور جيدًا — ويبدؤون رغم ذلك.
اللحظة المثالية تُصنع… لا تُنتظر
النجاح لا يحدث نتيجة توفر عوامل خارجية مثالية، بل نتيجة قدرة الشخص على اتخاذ الخطوة التالية في ظل الفوضى واللايقين. "اللحظة المناسبة" لا تنزل عليك كالوحي، بل تصنعها حين تُبادر، وتجرب، وتخوض التحدي رغم أن كل شيء في داخلك يقول: "ليس الآن".
من أبرز الأمثلة على ذلك، مؤسس شركة Airbnb الذي بدأ فكرته في ذروة أزمة مالية خانقة، أو ج. ك. رولينغ التي كتبت أولى رواياتها في ظروف قاسية ماديًا ونفسيًا. لو انتظرا الوقت المثالي، لما سمعنا باسميهما اليوم.
الخوف المقنّع: "سأنتظر قليلًا"
كثيرًا ما يخفي الانتظار خوفًا من الفشل، أو من نظرة الآخرين، أو من تحمل المسؤولية. النفس البشرية تكره الخروج من منطقة الراحة (Comfort Zone)، لذلك تصوغ عبارات مثل "لست مستعدًا بعد"، "الفرصة لم تحن"، "دعني أُنمِّي نفسي أولًا"، بينما الحقيقة أن معظم المهارات والنضوج لا يأتي قبل البدء، بل بعده.
أنت لا تصبح جاهزًا ثم تبدأ، بل تبدأ لتصبح جاهزًا.
كيف تتغلب على وهم الانتظار؟
ابدأ صغيرًا: لا حاجة إلى قفزة عملاقة، خطوة بسيطة اليوم أفضل من انتظار القفزة المثالية غدًا.
اضبط مؤقتًا: خصص وقتًا ثابتًا يوميًا للاقتراب من هدفك، مهما بدا صغيرًا.
اربط فعلًا بمكافأة: العقل البشري يستجيب جيدًا للمكافآت، حتى الرمزية منها.
راقب أفكارك: راقب العبارات المؤجلة مثل "ليس الآن" و"سأفكر فيها لاحقًا" — غالبًا ما تكون تنصلًا من الفعل.
قلها بصوت عالٍ: تحدث مع شخص تثق به عن فكرتك أو نيتك — عندما تقولها بصوت عالٍ، تزداد التزاماتك تجاهها.
اللحظة التي تبدأ فيها... هي اللحظة المناسبة
في النهاية، ليس هناك ما يُسمى بـ "الوقت المناسب" سوى اللحظة التي تقرر فيها أن تبدأ. قد تبدو الظروف بعيدة عن الكمال، لكنك ستفاجأ بكمّ الفرص التي تظهر حين تتحرك.
وكما قال الكاتب الأمريكي Napoleon Hill:"لا تنتظر. لن يأتي الوقت المناسب أبدًا. ابدأ من حيث أنت، واعمل بما لديك، وكل ما تحتاجه سيأتيك مع التقدّم."
فإن كنت تبحث عن إشارة، فهي أمامك الآن.
ابدأ. اللحظة المثالية لن تأتي... إلا إذا أنت صنعته .
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه