في عام 1958، صاغ المؤرخ البريطاني نورثكوت باركنسون (Northcote Parkinson) قانونًا ساخرًا أصبح اليوم مرجعًا في علم الإدارة وعلم النفس السلوكي.
أطلق عليه اسم "قانون باركنسون للتفاهة" (Parkinson’s Law of Triviality)، والذي يعبر عن ميل البشر للتركيز على التفاصيل البسيطة والمفهومة على حساب القضايا المعقدة والمصيرية.
هذا القانون يشرح كيف ولماذا تضيع الاجتماعات والقرارات في مناقشات لا قيمة لها، رغم أن قضايا أكبر وأهم يتم تجاهلها .
ما هو قانون باركنسون للتفاهة؟
ينص القانون باختصار على أن الناس يميلون إلى إنفاق وقت غير متناسب في مناقشة الأمور التافهة والبسيطة لأنهم يشعرون أنهم يستطيعون المساهمة فيها، بينما يتجنبون الخوض في المواضيع الأكثر تعقيدًا التي قد تكون خارج نطاق معرفتهم.
على سبيل المثال: إذا اجتمعت لجنة لمناقشة مشروع بناء مفاعل نووي، فإن أعضاء اللجنة لن يقضوا وقتًا طويلًا في مناقشة تصميم المفاعل أو قضايا الأمان النووي، لأنها أمور معقدة وتتطلب خبرة هندسية متخصصة.
بدلًا من ذلك، قد ينتهي الاجتماع بساعات طويلة من النقاش حول لون سقيفة الدراجات الموجودة بجانب المفاعل.
Bikeshedding السقف الذي غطى على كل شيء!
هذه الظاهرة تُعرف أيضًا باسم Bikeshedding، وهو مصطلح ساخر مستوحى من المثال الشهير الذي قدمه باركنسون: بدلًا من مناقشة تصميم محطة نووية (لأنها صعبة)، سينشغل الجميع بتفاصيل بناء "سقيفة الدراجات" – وهي عبارة عن غطاء بسيط لحماية الدراجات من الشمس أو المطر، ويمكن للجميع أن يعبر عن رأيه في لونه أو شكله.
وبالمثل أيضا عند مناقشة تقرير مالي مفصل لميزانية شركة ضخمة من قبل الهيئة العامة فقد يضيع وقت طويل من الاجتماع في مناقشة نوع وحجم الخط ولون الغلاف وأين نطبع التقرير وكيف نوزعه وغيرها من التفاصيل الصغيرة.
ببساطة لأن هذا المواضيع سهلة ومتاحة للجميع، فإن النقاش يطول… رغم أن أهميتها الفعلية لا تُقارن بالموضوع الرئيس.
لماذا نقع في فخ التفاهة؟
تفسير هذه الظاهرة يعتمد على عدة عوامل نفسية وسلوكية، من أبرزها:
- سهولة الفهم: الدماغ البشري يفضل التعامل مع ما هو مألوف وسهل. الأمور المعقدة تستلزم جهدًا معرفيًا لا يحب الكثيرون بذله.
- الرغبة في إثبات الذات: عندما لا يستطيع الشخص المساهمة في النقاشات الكبيرة، فإنه يبحث عن أي موضوع يستطيع أن يدلي برأيه فيه، حتى لو كان غير مهم.
- تجنّب المسؤولية: التطرق للقضايا الكبيرة يتطلب اتخاذ قرارات جريئة وتحمل العواقب. أما الحديث عن لون السقيفة او حجم الخط ونوعه في التقرير، فلن يُحاسب عليه أحد.
تطبيقات قانون التفاهة في حياتنا اليومية
قد نظن أن هذا القانون ينطبق فقط على المؤسسات الكبرى أو المشاريع الضخمة، لكنه في الحقيقة يظهر في كل مكان:
- في اجتماعات العمل: كم من مرة طُرح موضوع استراتيجي ولم يُناقش بعمق، بينما طُرح موضوع تافه مثل تغيير لون الشعار أو شكل البريد الإلكتروني واستغرق وقتًا طويلًا؟
- في الحياة السياسية: يتم تجاهل القوانين الاقتصادية المعقدة، بينما يُثار الجدل العام حول مسائل رمزية بسيطة.
- في الحياة الاجتماعية: نغفل عن القضايا الحقيقية التي تؤثر على الأسرة أو المجتمع، وننشغل بتفاصيل يومية مثل ديكور المنزل أو تفاصيل حفلة.
كيف نتجاوز هذا الفخ؟
1. الوعي بالمشكلة: مجرد معرفة وجود هذا القانون يساعد على مقاومته. حين نلاحظ أننا ننغمس في نقاش تافه، يجب أن نسأل: "هل هذا ما يجب أن نركز عليه فعلًا؟"
2. تحديد الأولويات: يجب أن نبدأ دائمًا بالأمور الجوهرية والمعقدة قبل أن نصل إلى التفاصيل.
3. الاستعانة بالخبراء: لا بأس في أن نُفوّض المسائل التقنية للمتخصصين ونركّز على القرارات ذات الأثر الحقيقي.
4. وضع جدول زمني: تحديد وقت لكل نقطة في الاجتماعات يمنع التوسع في المواضيع التافهة .
" إن قانون باركنسون للتفاهة" ليس مجرد نكتة إدارية، بل هو مرآة لسلوك بشري شائع: الميل إلى الهروب من التعقيد والانغماس في المألوف.
إذا أردنا أن نكون أكثر فاعلية في حياتنا، سواء على مستوى العمل أو المجتمع، فعلينا أن نتعلم كيف نميّز بين ما هو جوهري وما هو هامشي، وأن لا نسمح لـ"سقيفة الدراجات" أن تسرق الضوء من المفاعل النووي!
أمجد قاسم
X@amjad
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه