في التاريخ الاقتصادي، تُسجل آلاف القصص لرجال أعمال بنوا ثرواتهم على الدراسة الدقيقة والخطط المحكمة، لكن قصة تيموثي ديكستر (Timothy Dexter) تسير في الاتجاه المعاكس تمامًا؛ إذ تمثل نموذجًا فريدًا لشخص جمعت الصدفة الغريبة بين الجهل التام والحظ الفريد، لتصنع منه واحدًا من أغنى رجال عصره، بطريقة تثير الدهشة والابتسامة في آنٍ معًا.
من هو تيموثي ديكستر؟
ولد ديكستر عام 1747م في الولايات المتحدة الأمريكية. لم يكن يمتلك خلفية علمية أو خبرة تجارية عميقة، بل كان شخصية عادية، بل وساذجة في نظر البعض، خاصة الأوساط التجارية المحترفة.
هذا ما جعل من السهل على بعض التجار أن يسخروا منه، ويقدّموا له نصائح تجارية عبثية ظنًّا منهم أنها ستقوده إلى الإفلاس المؤكد.
النصيحة الساخرة الأولى: شحن الأناجيل والقفازات إلى المناطق الحارة
في أحد الأيام،
أخبره أحد التجار ـساخرًا ـ أن جزر الهند الغربية، المعروفة بمناخها الحار
والاستوائي، بحاجة ماسة إلى نسخ من الكتاب المقدّس (الإنجيل) وقفازات
اليد.
لم يفطن ديكستر إلى أن هذه النصيحة كانت خالية من المنطق؛ فمن المعروف أن درجات الحرارة المرتفعة في تلك المناطق لا تبرر استخدام القفازات، كما أن الإنجيل لم يكن من السلع المتداولة هناك على نطاق واسع آنذاك.
لكنه، وبعفوية كاملة، أقدم على شراء أربعين ألف نسخة من الإنجيل، وأربعين ألف زوج من القفازات، وشحنها إلى جزر الهند الغربية.
النتيجة غير المتوقعة: موجة دينية وزبائن روس
ما لم يكن في الحسبان أن وصول الشحنة تزامن مع انطلاقة حركة دينية تبشيرية واسعة في جزر الهند الغربية، ما أدى إلى طلب مرتفع على نسخ الإنجيل، وتم بيعها بالكامل محققًا ربحًا بنسبة 100%.
أما القفازات، فقد شاءت المصادفة أن تصل بالتزامن مع رسو أسطول روسي تجاري في موانئ الجزر.
وبما أن روسيا كانت تعاني من البرد القارس، اشترى وكلاء السفن الروسية القفازات كلها، وتم تحقيق أرباح طائلة.
الفخ الثاني: شحن الفحم إلى نيوكاسل!
استفز هذا النجاح المذهل غيرة التجار الآخرين، فقرروا أن يدفعوا ديكستر مجددًا نحو فخٍ آخر، أكثر فداحة.
نصحوه هذه المرة ،على سبيل السخرية ـ أن يشحن الفحم إلى نيوكاسل في بريطانيا، وهي المنطقة الأشهر آنذاك بإنتاج الفحم الحجري، بل تُعدّ أحد مراكز تصديره إلى أوروبا!
ومجدّدًا، لم يدرك
ديكستر أن هذه النصيحة تحمل في طيّاتها تهكّمًا واستهزاءً واضحًا.
قام باستئجار عدد كبير من السفن، وحمّلها بفحم من ولاية بنسلفانيا الأمريكية، وأرسلها إلى نيوكاسل البريطانية.
المصادفة الذهبية: إضراب العمال واحتياج السوق
في مفاجأة جديدة، تزامن وصول الشحنة مع إضراب عمالي شامل في مناجم نيوكاسل. توقفت عمليات الإنتاج، وحدث نقص حاد في كميات الفحم المعروضة في السوق المحلي. وعند وصول سفن ديكستر، كانت الأسواق في أمسّ الحاجة للفحم.
تم بيع الشحنة بالكامل، وحقق أرباحًا فاقت ما جمعه سابقًا، ليتضاعف رأس ماله، ويصبح بذلك من أثرى رجال الأعمال في منطقته.
تحليل نفسي واقتصادي لما حدث
قد يبدو ما حدث ضربًا من الحظ الأعمى، لكن القصة تثير عددًا من الدلالات النفسية والاجتماعية المهمة:
1- أثر التوقعات المسبقة في الحكم على الآخرين:
أساء التجار تقدير ديكستر لأنهم رأوه جاهلًا، واعتقدوا أن جهله كفيل بإفلاسه. لكن ما لم يتوقعوه أن العشوائية نفسها قد تحقّق أحيانًا نتائج تفوق المنطق، لا بسبب الكفاءة، بل بفعل الصدفة الصرفة.
2- الحظ مقابل التخطيط:
في حين أن أغلب النجاحات التجارية تُبنى على التخطيط، تبقى الصدفة عاملًا غير قابل للتجاهل.
ديكستر يمثل استثناءً صارخًا لتلك القاعدة، لكنه يُذكّر بأن الواقع لا يخلو من مفاجآت.
3- مخاطر الاتكال على الحظ وحده:
رغم أن حظ ديكستر كان استثنائيًا، إلا أن الاعتماد على المصادفات وحدها استراتيجية محفوفة بالمخاطر. فنجاحه لا يعني أن من يقلده سينجح، بل قد يعرض نفسه لانهيار مالي حتمي إن لم يكن واعيًا.
العبرة والمغزى
قصة تيموثي ديكستر
تُظهر أن الحظ وحده لا يُبنى عليه النجاح المستدام، لكنه قد يصنع شهرة غير
متوقعة حين يُصادف جهلًا لا يخجل من المخاطرة.
كما تسلط الضوء على الميل البشري للسخرية من "البسطاء"، ظنًا أنهم غير قادرين على التفوق، بينما قد يحمل العالم مفاجآت تقلب الموازين لصالح من لا يُتوقع له الفوز.
في عالم التجارة والقرارات المصيرية، ليس الذكاء وحده ما يصنع النتائج، أحيانًا... يكون الحظ أذكى من الجميع.
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه