د. وائل أبو هندي**
| |||
عناوين المقالات في الدوريات الطبية وغير الطبية تربط السمنة بالمرض لا بالصحة، والأطباء في كل مكان ينصحون مريضهم بالانتباه إلى وزنه، ويعلقون النجاح في علاج مرضه بنجاحه في تقليل وزنه، يفعل الكل ذلك وكلهم إيمان بأن السمنة تحمل كثيرا من الأخطار على صحة الفرد وعلى حياته بصفة عامة.
وهكذا أصبح الارتباط بين السمنة وبين ما اشتهر بأنه من أمراض السمنة كارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين والذبحة الصدرية ومثل مرض السكر، وأمراض المفاصل وغير ذلك كثير من الأمراض الخطيرة أو المزعجة، إلى درجة أن تقارير علمية حديثة تربط بين السمنة والموت المبكر حتى في صغار السن من الأطفال ومن المراهقين.
إلا أن الخطر الذي قد تمثله السمنة على الصحة العامة لا يمكن تقييمه فقط بالرجوع إلى أكثر الطرق الطبية شيوعا اليوم لتحديد مستوى السمنة أو النحولة والتي تعتمد على حساب منسب كتلة الجسد، والناتج عن حاصل قسمة الوزن بالكيلوجرام على مربع الطول بالمتر؛ فهناك عوامل أخرى عديدة من أهمها توزع الدهون في الجسد ومناطق تجمعها، ومستوى اللياقة البدنية بغض النظر عن الوزن. كما بينت بعض الدراسات أن الخلفية العرقية للشخص هي أيضا من العوامل المؤثرة في مدى خطورة منسب كتلة جسده على صحته؛ وهو ما يعني أن الأمور ليست أبدا بالبساطة التي تمكننا من إرجاعها إلى عامل واحد بالشكل الذي يسمح للأطباء في كل مكان في العالم أن يربطوا بين سمنة شخص ما بمجرد رؤيته والأمراض التي تصيبه.
فإذا أضفنا المفهوم الخاطئ الشائع والقائل إن السمين مسئول عن سمنته فإن تأثير ذلك يمتد ليس فقط ليؤدي إلى الإساءة للسمنة كحالة طبية للجسد البشري، بل إنه يمتد أيضا ليؤثر على تعامل المشتغلين بالصحة مع المريض السمين، وتقبلهم له وانطباعاتهم عنه واستعدادهم لسماعه وتوقعهم لمآل حالته المرضية، وسبب ذلك بالطبع إنما يرجع إلى مجموعة الأفكار الشائعة التي تحمل تحيزا لا يقبل النقاش ضد السمنة.
السمنة.. هل هي مرض؟
ورغم ذلك الشيوع والأثر القوي لفكرة ارتباط السمنة بالمرض، فإن الباحث المدقق سيكتشف أو سيصدم بأن ذلك الارتباط بين السمنة والأمراض ليس مؤكدا ولا قويا من الناحية العلمية والإحصائية بالشكل الذي يبرر التسليم الحاصل بأن السمنة مدعاة للمرض، ناهيك عن اعتبارها هي نفسها مرضا (باستثناء السمنة المفرطة بالطبع)، وهذا هو ما ينادي به كثيرون من العقلاء في الميدان العلمي والطبي، لكن أصوات هؤلاء نادرا ما تجد من يضعون لها الأبواق المناسبة.
ومن الطريف أن سواء الذين يشيرون إلى البدانة باعتبارها مرضا أم الذين يشككون في صحة اعتبارها مرضا، لم يقدم أيهم تعريفا عاما محدد المعالم للمرض، ولم يحاول أحد أن يفند البدانة وما يصاحبها من أعراض وعلامات ليرى ما إن كانت تنطبق عليها صفات المرض أم لا؟!.
فحقيقة الأمر أننا كأطباء إذا اعتبرنا السمنة أو زيادة كتلة الدهن في جسد إنسان ما عن عتبة معينة، نضعها نحن بناء على مقاييس اخترناها نحن أو اختارتها لنا شركات التأمين على الحياة، أو اختارها لنا صناع تجارة الجسد الجميل أو تجار صناعة الجسد الجميل، ونحن قبلناها وصدقناها، فإننا سنواجه ومباشرة -كأطباء- عدة مشكلات:
أولا: هذا الاعتبار يتجاهل نقطة مهمة وهي الطبيعة الاحتمالية لربط السمنة بأي من الأمراض التي نتهمها بأنها عامل خطورة لها، مع أن معنى "عامل خطورة" في حد ذاته يعني أن الأمر لا يعدو كونه احتمالا في الأساس.
ثانيا: إن العلامة أو العرض الوحيد للسمنة أن دهنا كثيرا يوجد في الجسد، وهذا هو نفس الصفة المميزة للحالة، وليست هناك علامات أخرى مؤكدة سريرية أو حتى قبل سريرية.
ثالثا: وثمة مشكلة في مفهوم العرض والمرض؛ إذ كيف تكون الحالة نفسها عرضا أحيانا ومرضا أحيانا بالمفهوم الطبي؟.
رابعا: هناك الكثير من أصحاب الوزن الزائد لا يعانون من أي إعاقة بسبب سمنتهم. إلا أنه في حالات السمنة الشديدة والتي نراها عند زيادة منسب كتلة الجسد عن 40 كجم يوجد دليل واضح على التعارض مع الأداء الجسدي والاجتماعي للشخص، وربما حتى يصل التعارض إلى حد الإعاقة.
السمنة.. وصمة اجتماعية
والحقيقة التي لا يمكن إغفالها بالرغم من ذلك هي أن المجتمع من حولنا يحوي العديد من الأشخاص ذوي الوزن الزائد الذين لا تمثل سمنتهم مشكلة بالنسبة لهم في أي منحى من مناحي حياتهم اللهم شعورهم بأنهم يتعرضون للتفرقة الجسدية الاجتماعية؛ فهم مثار سخرية أو استغراب أو استظراف المحيطين بهم، وهم ضحية التحيز الاجتماعي للجسد النحيل أو الممشوق، كما أنهم يعانون في أبسط الأشياء كانتقاء الأزياء، خاصة في العالم الذي يسمونه عالما ناميا.
وعلى خلاف ذلك إذا نظرنا إلى من يعانون من درجات السمنة البسيطة فإننا نجد معاناتهم أقل، وأن هناك خطورة على وظائفهم أو أجهزتهم الحيوية أيضا أقل، كما نجد المجتمع أكثر تقبلا لهم وهم بالتالي أقل عرضة للسخرية الاجتماعية وأيضا للتحيز الاجتماعي ضدهم، صحيح أنهم يقفون من الناحية الطبية على باب الدخول في البدانة الشديدة بكل ما يعنيه ذلك من تهديد لصحتهم العامة وأدائهم الاجتماعي والنفسي، إلا أنهم يضعون المفاهيم الطبية الشائعة والشعبية أحيانا في موقف محرج عندما يعيشون حياة ناجحة نشيطة على كل المستويات.
وكأننا وضعنا وصمة المرض على ما لم يكن مرضا، إلا إذا كان من المقبول أن نعتبر -بمثابة المرض- حالة لا تؤثر بالسلب مطلقا على صاحبها على الأقل خلال فترة من حياته.
صحيح أن بعض الأشخاص السمينين قد يفشلون في مجاراة الآخرين في مهارات تعتمد على خفة الوزن، مثل صعود السلم بسرعة مثلا! أو الجري (خاصة بسرعة لمسافة طويلة)، ولكن هذا ليس مقصورا عليهم؛ فهناك كثيرون من ضحايا الحياة العصرية الخاملة في عالمنا النامي وأيضا في العالم الذي يحسب نفسه "صاحيا" لا يستطيعون الجري ولا صعود السلم بسرعة أو قفزا، صحيح أن الرشاقة والانسجام البدني أمر مطلوب، ولكن غيابه لا يصح أن يعتبر مرضا من الناحية الطبية العامة.
الحميات المنحفة أخطر من السمنة
ومن المهم أن نشير إلى تضارب الآراء ونتائج الدراسات حول الآثار الصحية السلبية لزيادة الوزن؛ فهناك من يرون أن عوامل الخطورة للأمراض التي يظن أنها مرتبطة بزيادة الوزن ربما كانت أكثر ارتباطا بعوامل وراثية أو بمكان تجمع الدهون في الجسد، أو بالحمية المنحفة المتكررة أكثر من ارتباطها بزيادة الوزن في حد ذاتها.
وهناك من يرون أن السمنة قد لا تكون عامل خطورة مهما لأمراض القلب أو غيرها من الأمراض إذا لم توجد لديهم عوامل خطورة أخرى غيرها، وغالبا ما تسبق حدوث السمنة، بل إن هناك ما يشير إلى أن صاحب السمنة المتوسطة (زيادة الوزن بحوالي 15 كجم) قد يمتلك صحة أفضل من صاحب القوام النحيل.
إن إنكار كون السمنة مشكلة صحية اجتماعية ليس هو المقصود، وإنما المقصود هو أن من الخطأ اعتبارها مرضا، بينما هي لا تفي بالشروط اللازمة لكونها مرضا في كل الأحوال بالمعنى الطبي، بل إن الأمانة العلمية تقتضي ما هو أبعد من ذلك، فبينما نجد العامة في أيامنا هذه على وعي تام بالآثار الصحية السلبية للبدانة، نجد العامة ومعظم الخاصة لا يعرفون أقل القليل عن الآثار السلبية للحميات المنحفة، وجراحات التنحيف وشفط الدهون على الصحة.
فمتتبعو الحميات كثيرا ما عانوا من مضاعفات صحية في منتهى الخطورة منها اختلال وظائف القلب والمرارة وحتى الموت، بل إن البدانة المتصاعدة الناتجة عن الحميات المتكررة وما يصحبها من تأرجح الوزن وصولا إلى زيادة نهائية في المحصلة هي أكثر خطرا على الجسد (خاصة على القلب) من الناحية الصحية من البقاء سمينا مدى الحياة.
فالطب رغم ما يبديه من تقدم في مجالات شتى، لا يزال عاجزا عن المعرفة الكاملة أو حتى الفهم الكامل لكل من الأسباب وطرق الخلاص من السمنة، ولا تزال أجسادنا تنتصر علينا ببساطة؛ لأنها ليست مجرد آلات أو أدوات نستطيع التحكم الكامل فيها.
*نقلا عن موقع مجانين، بتصرف. وقد نشر المقال على الموقع بتاريخ 26-7-2004
**أستاذ مساعد للطب النفسي بكلية الطب - جامعة الزقازيق - مصر، ويمكنك التواصل معه عبر البريد الإلكتروني الخاص بالصفحةoloom@islamonline.net
|
عن اسلام اون لاين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه