مدونة ثقافية تعنى بالإبداع والابتكار والتنمية البشرية

اخر الأخبار

Post Top Ad

الثلاثاء، 17 أكتوبر 2006

كوريا الشمالية ولغز التجربة النووية

هشام سليمان**

أين الحقيقة فيما تدعيه كوريا الشمالية من أنها قامت بإجراء أول تجربة نووية؟ هل هو تفجير نووي حقا؟ وإذا كان كذلك فكيف لا ينتج عنه سوى زلزال متوسط القيمة لا تتجاوز شدته 4.2 درجات على مقياس ريختر؟! أم أنه تفجير تقليدي ضخم استخدم بهدف خداعي لأغراض تفاوضية سياسية؟ ولكن هناك دلائل تؤكد عدم استخدام متفجرات تقليدية! وفي الوقت نفسه لا توجد قرينة واحدة تثبت خروج أي إشعاع من موقع التفجير!!. وما زالت هناك أسئلة كثيرة وعلامات تعجب أكثر، وحتى الآن ما زال الجميع "يضرب أخماسا في أسداس".
إذن فالمشكلة تتلخص في أن أجهزة الرصد لم تستطع التقاط أدنى مؤشر على انتشار إشعاعات ناتجة عن التفجير، وهي التي تشكل مؤشرا كاشفا في أي تفجير نووي عن طبيعة التكوين الفني للجهاز النووي المستخدم فيه وكذلك حجمه، وقوته النووية.
إن كوريا الشمالية دولة ستالينية النموذج تحكم بقبضة من حديد، لذا فهي مغلقة أمام الداخل والخارج، ويزيد على ذلك أنها تعاني من عزلة دولية قاسية أضافت مزيدا من الغموض حولها، ومن ثم فإن المتوافر عنها من معلومات شحيح للغاية، فما بالنا بأمر فائق السرية والخطورة يتعلق بتجربة نووية، فكل المعروف عن التفجير أنه أجري على نطاق محدود نسبيا في الشمال بمنطقة نائية شرقي البلاد يوم الإثنين الموافق 9-10-2006.
اللغز المحير والأخماس في أسداس
دعونا نعرف الحكاية، صحيح أنها ملتبسة أساسا بالسياسة ولكن ما يهمنا في هذا التناول الجانب العلمي؛ فتقنيا غالبا ما يتم إجراء الاختبارات النووية في باطن الأرض، بعد أن يتم اختيار موقع التفجير بعناية فائقة من الناحية الجيولوجية؛ حيث يوضع الجهاز النووي في حفرة عميقة أو في نفق بعمق قد يصل لـ 800 متر تحت سطح الأرض، ثم يتم التفجير عن بعد.
والتفجير الذي تم في أعماق جبل يقع قرب الساحل بشمال كوريا الشمالية يبدو كما لو كان تفجيرا نوويا، ولكنه للعجب صغير جدا بالمعايير التقليدية، قد تكون محاولة فاشلة أو ناجحة جزئيا.. قد.. قد، لا أحد يعرف أو يعرف كيف يعرف!.
تاريخيا، فإن التفجيرات النووية الأولى تراوحت شدتها بين 10 آلاف و60 ألف طن أو بعبارة أخرى من 10 إلى 60 كيلو طن من المتفجرات التقليدية شديدة الانفجار.
لكن قوة الاختبار الكوري الشمالي صغيرة جدا، فهي لا تصل لكيلو طن واحد، وفقا للعلماء المراقبين لأي تفجير بعيد -صغيرا كان أم كبيرا- بواسطة أجهزة رصد الهزات الأرضية "السيزمومتر"، والتي التقطتها كافة أجهزة المنظومة المنتشرة في كل أرجاء المعمورة، فمثل تلك الانفجارات لا يمكن إخفاؤها مهما كانت صغيرة جدا.
أحد مسئولي إدارة بوش -عفوا السياسة لها دور هنا- استطاع بواسطة اتصالات مع مسئولين آسيويين أن يعرف أن علماء كوريا الشمالية كانوا يتوقعون أن تبلغ قوة التفجير نحو 4 كيلو طن، وهو ما لم يحدث.
شدة الزلزال الذي تسبب فيه التفجير كانت 4.2 على مقياس ريختر للزلازل، التقطتها وقدرتها نحو 20 محطة رصد منتشرة في الصين واليابان وكوريا الجنوبية وحتى في أوكرانيا وأستراليا وأمريكا.
ومع ذلك، فقد صرح وزير الدفاع الروسي سيرجي إيفانوف عقب التجربة لوكالة "إيتار تاس" أنهم في روسيا يعتقدون أن قوة التفجير تتراوح بين 5 إلى 15 كيلو طن، ولا يعرف أحد على أي أساس قدرها الروس بهذا القدر؛ وهو ما أضفى على المسألة مزيدا من الغموض.
في واشنطن قدر المختصون قوة التفجير بما يزيد قليلا عن نصف كيلو طن، وقالوا إنهم يحتاجون لأيام قبل التأكيد من كون التفجير نوويا؛ لأن المجسات المنتشرة هنا وهناك لرصد الأنشطة النووية في كوريا الشمالية لم تلتقط أية إشارة على تسرب إشعاعي من مكان التفجير؛ وهو ما ترك انطباعا لدى البعض أن الكوريين الشماليين لجئوا لحيلة تفجير كمية ضخمة من المتفجرات التقليدية شديدة الانفجار.
ولكن هذه الفرضية غير واردة؛ أولا لأن المخاطر السياسية المترتبة على ذلك كبيرة ولا تتناسب مع حجم وخطورة الإعلان عن تفجير نووي والقيام به، ثم إن لأمريكا شبكة من أقمار التجسس تراقب كوريا الشمالية ولم تلتقط هذه الأقمار أي إشارة على شحن وتفجير أي متفجرات كيماوية تقليدية! ثم إنها مسألة غير قابلة للإخفاء أو للمخادعة فيها كما يقول البعض، فكوريا الشمالية تعلم أنها مراقبة.
زاد الأمر تعقيدا ما قاله خبير معتبر ومرموق اسمه "د. فيليب كويل" كان يشغل منصب المدير الأسبق لاختبارات الأسلحة بالبنتاجون، والمدير السابق لمعمل لورانس ليفرمور الوطني الأمريكي المختص باختبارات الأسلحة، من أن الاختبارات الصغيرة غالبا ما تسرب كميات كبيرة من الإشعاع بالمقارنة مع ما تطلقه الاختبارات الكبيرة؛ لأن الحرارة الكبيرة والموجات الصادمة العملاقة للانفجارات الأكبر تميل نحو صهر وسحق الصخر المحيط بمكان التجربة؛ وهو ما يحوِّله لسد منيع أمام تسرب كميات كبيرة من الإشعاع.
ويزيد من تلك الحيرة أن أمريكا واليابان تحديدا، فضلا عن المنظمة الراعية لحظر إجراء التجارب النووية، بثت من المعدات والأجهزة الراصدة حول كوريا الشمالية الكثير وهي تختبر الهواء فوق كوريا الشمالية والماء المحيط بها لالتقاط أدنى علامة على أي نشاط إشعاعي، وهي على كثرتها لم تلتقط شيئا كما ذكر آنفا.
في كوريا الشمالية أجهزة الرصد قدرت الهزة الأرضية الناتجة عن التفجير بنحو 3.58 درجات على مقياس ريختر، وفي فيينا فإن أجهزة المنظمة قدرتها بنحو 4 درجات، وهو ما يقترب من حسابات أجهزة الرصد الأمريكية عالية التقنية التي قدرته كما ذكرنا بحوالي 4.2 درجات على نفس المقياس.
ومرة أخرى، فالمهم أن التفجير تسبب في رجة متوسطة هزت جانب جبل مانتاب بالقرب من الساحل الشرقي لكوريا الشمالية، وهذه المنطقة تحديدا مسلط عليها مجهر تجسس فعال منذ فترات طويلة، فإذا كان الانفجار صغيرا لدرجة الاعتقاد بأنه تقليدي، فإن القيام بتفجير غير نووي يستلزم عملا ضخما، وهذا ما لم ترصده أجهزة التجسس التي تحيط بالمنطقة وتعج بها سماؤها؛ أي إن لدينا قرينة مضافة أو شاهد عدل على أن التفجير غير ناتج عن تفجير تقليدي ضخم؛ إذ إن الاستعدادات لنقل كميات ضخمة من المتفجرات الكيماوية التقليدية والتجهيزات المطلوبة له كانت تستلزم حركة وجلبة وضجيجا ما كان ليغيب عن نظر وسمع أجهزة التجسس.
إذا كان التفجير غير نووي وغير تقليدي، فماذا يكون؟!!

فاشل

إن فرنسا لديها فرضية قد تكون مريحة بعض الشيء، فقد صرحت وزيرة الدفاع الفرنسية على راديو أوروبا واحد "أن الانفجار لو كان نوويا فهو فاشل"، وهذا ما جعل بعض المحللين يرجح هذه الفرضية؛ لأن بيونج يانج أعلنت عن تجارب تالية؛ الأمر الذي تم تفسيره باعتباره محاولة لإدراك ما فات في التجربة "الفاشلة" الأولى، إن كانت فاشلة وإن كانت نووية!.
لكن الراحة التامة جاءت على لسان سفير أمريكا لدى اليابان؛ حيث صرح أن العالم بأسره فيما سوى كوريا الشمالية لن يتسنى له الوقوف على حقيقة التفجير، هل هو نووي أما ماذا يكون؟.
فن التعمية والمراوغة
رغم أجهزة الرصد والتجسس المسلطة على كوريا الشمالية من أكثر من جهة مهتمة، فإن المتوافر عن برنامجها النووي ضئيل للغاية، والمعلومات الصلبة المعروفة تنحصر في التالي:
كوريا الشمالية تملك وسائل إنتاج البلوتونيوم، وهو مكون رئيسي في صناعة الأسلحة النووية، فضلا عن إظهارها عن قدرة لتنقية البلوتونيوم وإعادة تشغيله بعد معالجته؛ إذ استطاعت إنتاج كميات محدودة في الثمانينيات وأوائل التسعينيات.
يملك البلد الشيوعي مفاعلا نوويا عاملا في مدينة يونج بيون، ويمكنه إنتاج ما يكفي من البلوتونيوم لصناعة نحو سلاح نووي واحد كل عام.
ومن المعروف أيضا أن لديها 8000 قضيب وقود نووي مشبع بالبلوتونيوم، وما وراء ذلك محض تخمينات ويكتنفه الغموض.
إن كوريا الشمالية أثبتت أكثر من مرة أنها تستطيع التفوق على كل العيون والعدسات والمناظير المسلطة عليها وتضللها، فمثلا في أحد فصول أزمتها مع الغرب حول برنامجها النووي كانت أعلنت أنها بصدد إعادة معالجة قضبان الوقود المتوافر لديها لاستخلاص البلوتونيوم منها.
وعجزت أجهزة الاستخبارات وأجهزتها عن تقديم دليل ملموس يؤكد قيام كوريا الشمالية بتلك العملية حقيقة، فهذا يتطلب إما معلومة يعتمد عليها من مصدر بشري موثوق، أو عن طريق رصد غاز الكريبتون-75 الذي ينبعث في الجو حينما يتم معالجة أو استخلاص مواد نووية في مفاعل، والذي يصعب احتواؤه والحيلولة دون رصده.
ورغم أن أجهزة رصد غاز الكريبتون-75 كانت نشرتها الولايات المتحدة بحرا قبالة سواحل كوريا الشمالية، وجوا من خلال طائرات تجسس، أكدت انبعاث هذا الغاز في تلك الأثناء فإن المعلومة لا تزال محل جدل وغير مؤكدة.
فمن غير المستبعد ومن المحتمل جدا أن تكون كوريا أطلقت غاز الكريبتون عمدا، في إطار المحاولات الخداعية التي تبذلها كوريا الشمالية لإقناع العالم بأنها وصلت إلى امتلاك السلاح النووي فعلا، هذا من ناحية، ثم حتى لو كان الغاز ناتجا عن نشاط حقيقة، فلن يستطيع الخبراء تحديد كم من قضبان الوقود النووي الثمانية آلاف قد تم معالجتها، وبالتالي كم من البلوتونيوم تم استخلاصه.
إن كوريا الشمالية تعتبر بمثابة عالم مجهول بالنسبة للاستخبارات، ونادرا ما يخرج من هذا البلد الذي يعيش بمعزل عن الدنيا أي شيء يمكن الاعتماد عليه، كما يقول "جون وولفستال" الذي عمل مراقبا ميدانيا لأمريكا في كوريا الشمالية عامي 1995 و1996.
وخلاصة قوله: "إذا كان العراق قد جعل العالم يدرك أن الاستخبارات فن وليست مجرد علم جامد، فإن كوريا الشمالية لا تدخر وسعا في الإمعان في التفنن".

**كاتب في الشأن العلمي، ومحرر بقسم الأخبار بـ"إسلام أون لاين.نت"، ويمكنكم التواصل معه عبر البريد الإلكتروني الخاص بصفحة علوم وتكنولوجياoloom@islamonline.net.

عن موقع اسلام اون لاين


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

Post Top Ad

الصفحات