د.مجدي سعيد
إذا كان البروفيسور محمد يونس
قد عكف 30 عاما يبني منظومته العالمية في الإقراض المتناهي الصغر كأحد الوسائل
العملية المبتكرة لمكافحة الفقر، إلا أن عطاءه الفكري والعملي لم يتوقف عند
حدودها، فقد عاد في العام الثلاثين من تجربته ليقدم لنا مفهوما ونموذجا عمليا
جديدا باسم "البيزنس الاجتماعي Social
Business"، من خلال منظومة متكاملة من العمل تتكون من مفهوم نظري
ومدرسة عملية ونماذج تطبيقية.
المكون الأول من منظومة البيزنس
الاجتماعي، جاء في كتابه "بناء بيزنس اجتماعي: الصنف الجديد من الرأسمالية
الذي يخدم الاحتياجات الأكثر إلحاحا للإنسانية" والذي نشر عام 2008، والكتاب
مكرس للحديث حول المفهوم وتطبيقه وصيانته.
يقدم فيه ذلك المفهوم الجديد
والذي يعتبر نموذج إبداعي جديد للبيزنس، يروج لفكرة تصميم بيزنس يعالج المشكلات
الاجتماعية وليس بيزنس يستهدف تعظيم الربح، إنه مفهوم جديد للرأسمالية يعالج أكثر
مشكلات الإنسانية إلحاحا خاصة الفقر، إنه بيزنس يخلق وظائف وظروف عمل طيبة ويعالج
بشكل خاص العلل والأدواء الاجتماعية مثل قلة التعليم والرعاية الصحية والتغذية
السليمة.
البيزنس
الاجتماعي..المفهوم
ولكن ماذا تقول موسوعة
الويكيبيديا عن هذا المفهوم؟ تقول الموسوعة أن هناك معنيين لمصطلح "البيزنس
الاجتماعي":
- الأول هو لشركة تتأسس
على مبدأ لا خسارة ولا توزيع للأرباح، مصممة لتحقيق هدف اجتماعي، أرباحها تستخدم
لتوسيع مساحة وصول الشركة لعملائها ولتحسين المنتج أو الخدمة، وهو المعنى الذي نما
من خلال أعمال البروفيسور محمد يونس وآخرون (وهو المعنى الذي نتناوله هنا).
- الثاني وهو لمنظمة
مصممة بوعي حول السلوك الاجتماعي والأدوات الاجتماعية، كاستجابة لعالم متغير وظهور
الشبكة الاجتماعية Social web
، وهو المعنى الذي نشأ مع نشوء الفضاء التكنولوجي لويب تو web 2.0 والتي تتأسس في شكل الأدوات
والميديا والشبكات الاجتماعية.
البيزنس الاجتماعي الذي نعنيه
هنا هو – بالمعنى الأول - بيزنس مقاصدي (يتمحور حول مقصد اجتماعي)، حيث يمكن
للمستثمرين أو الملاك أن يستعيدوا المال المستثمر تدريجيا لكنهم لا يمكنهم أن
يتعدوا ذلك قيد أنملة إلى تقسيم للأرباح.
ويهدف الاستثمار بشكل حصري
لتحقيق واحد أو أكثر من الأهداف الاجتماعية من خلال عمل الشركة، حيث لا يهدف
المستثمرون لتحصيل أي منفعة شخصية. ينبغي على الشركة أن تغطي جميع تكاليفها وأن
تحقق فائضا.وفي نفس الوقت الذي تحقق فيه الهدف الاجتماعي، سواء أكان رعاية صحية أو
إسكان أو خدمات مالية للفقراء، أو تغذية للأطفال الذين يعانون من سوء التغذية، أو
توفير مياه الشرب للمحرومين منها، أو تزويد المحتاجين للطاقة المتجددة وعليها
أن تحقق تلك الأهداف الاجتماعية بطريقة إدارة اقتصادية. ويقاس نجاح البيزنس
الاجتماعي بتأثيره على الناس وعلى البيئة بدلا من مقدار الربح المحقق في فترة ما.
يتسم البيزنس الاجتماعي إذا
بأنه:
مصمم ويتم تشغيله كي يعطي
المستهلكين كل المزايا.
يتم تشغيله دون الوقوع في
خسائر.
يتم تشغيله للمنافسة مع
استثمارات الربح المتعاظم.
أن الربح يجب أن يكون متسقا
ومرغبا فيه من أجل:
إنتاج فائض يسمح برد رأسمال
المستثمر في أقرب وقت ممكن.
لإنتاج فائض يساعد على التوسع
وتحسين الجودة وزيادة الفاعلية عن طريق إدخال تكنولوجيا جديدة ويساعد على التسويق
الابتكاري للوصول إلى أكثر طبقات منخفضي الدخل عمقا وأكثر المجتمعات حرمانا،
وللقيام بالبحوث والتجريب اللازمين لتحسين وتنويع المنتجات والخدمات.
المبادئ
السبعة للبيزنس الاجتماعي
وقد حدد البروفيسور يونس سبعة
مبادئ للبيزنس الاجتماعي (وذلك في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس –
يناير 2009):
أن يكون هدف البيزنس هو التغلب
على الفقر أو مشكلة أو أكثر تتهدد الناس والمجتمع (كالتعليم، أو الصحة، أو الوصول
للتكنولوجيا، أو البيئة) لا أن يهدف إلى تعظيم للربح.
أن تتوافر له الاستدامة المالية
والاقتصادية
أن يحصل المستثمرون على الأموال
المستثمرة فقط، دون الحصول على أية أموال تزيد عن ذلك.
بعد سداد مبالغ الاستثمار، فإن
أية عوائد إضافية للمشروع ترد إليه للتوسع والتطوير.
أن يحقق الحفاظ على البيئة
أن يحصل العاملون على أجور
توازي سعر السوق مع ظروف عمل أفضل.
أن يترافق العمل في المشروع مع
الشعور بالحبور (أي بنفس طيبة)
البيزنس الاجتماعي..المدرسة العالمية
المكون الثاني من المنظومة التي
قدمها يونس هي "المدرسة العالمية" أو "معمل جرامين الابتكاري Grameen Creative Lab" والتي تأسست في
يناير من عام 2009 بالشراكة بين مؤسسة "مركز يونس Yunus Center" ومؤسسة سيرك
الألمانية CIRC Foundation
ومؤسسها هانز رايتس والذي أصبح مديرا للمؤسسة الوليدة والتي يقع مقرها في ألمانيا.
تهدف المؤسسة – المدرسة -
للقضاء على الفقر في العالم من خلال تشجيع "البيزنس الاجتماعي" عبر
ثلاثة أسس من العمل:
- التفاعل
"التوعية": وذلك عبر تنظيم وتقديم الاستشارات لتنظيم فعاليات للتوعية
العامة، وعبر نشر الكتب والمقالات حول البيزنس الاجتماعي، وعبر الحديث في
المؤتمرات لبناء حالة من الحوار العام حول المفهوم، وأخيرا ببناء شبكات للتواصل مع
مجتمع الاهتمام.
- الاحتضان
"الفهم": بتنظيم ورش للعصف الذهني حول أفكار البيزنس الاجتماعي، التجريب
من خلال مشاريع البيزنس الاجتماعي الخاصة بالمؤسسة، تشجيع ودعم البحوث الأكاديمية
بالتعاون مع الجامعات الشريكة.
- البناء
"التأثير": بتقديم الاستشارات للشركات حول كيفية تأسيس مشروعات مشتركة
للبيزنس الاجتماعي عبر العالم، ودعم المستثمرين والقطاع العام لبناء صناديق تدار
كـ"بيزنس اجتماعي"، وأخيرا عبر بناء منهجية لمنح الشهادات في مجال
البيزنس الاجتماعي.
رؤية 2015
تنبني تلك الرؤية على مجموعة من المفاهيم
والاعتقادات الأساسية أولها يلخصه قول البروفيسور يونس: أعتقد أننا نستطيع أن نبني
عالما بلا فقر لأن الفقر واقع لم يخلقه الفقراء لأنفسهم"، حيث أن الفرق بين
الفقير والغني ليس في الثروة وإنما في الفرصة.
فالفقراء هم أعظم الرواد
في العالم، ألا ترى أنهم يبدعون كل يوم كي يستطيعوا البقاء على قيد الحياة، هم
يبقون فقراء فقط لأنهم لا يمتلكون الفرص لتحويل إبداعيتهم تلك إلى دخل مستدام، ومن
ثم يعتقد القائمون على معمل جرامن الإبداعي أن النظام الاقتصادي الذي نعيش فيه لا
يخلق فرصا كافية للفقراء، لأنه نظام يفتقر إلى الرؤية.
ومن ثم فإن رؤية المؤسسة
هي بناء نمط من البيزنس لا يستهدف فقط المصلحة الشخصية وإنما فائدة المجموع، الصحة
والسعادة والأمان للجميع خاصة أولئك الأقل حظا، إنه ذلك النمط من البيزنس الذي
نسميه البيزنس الاجتماعي، ومن ثم جاءت الأهداف الطموحة في:
بناء وعي عام واسع بالبيزنس
الاجتماعي
جعل جرامين ماركة عالمية
بناء حركة عالمية للبيزنس الاجتماعي
جعل البيزنس الاجتماعي كتيار
جامعي عام
التمكين من الوصول للمعرفة
الشركاتية corporate knowledge
التمكين من الوصول لتمويل
البيزنس الاجتماعي
التأكد من ضمان ومراجعة جودة
البيزنس الاجتماعي
النموذج
الأول ..جرامين دانون
تأسست جرامين دانون كأول تجربة تطبيقية لفكرة
"البيزنس الاجتماعي" عام 2006 (أي أن التجربة العملية قبل البناء النظري
والمدرسة العالمية)، من أجل تزويد الأطفال الفقراء في بنجلاديش باحتياجاتهم من
العناصر الغذائية الأساسية، وهي العناصر الغائبة في الأغلب الأعم من غذاء أطفال
الريف البنغالي الفقير.
فجاء تأسيس الشركة نتاجا
لزيارة قام بها يونس إلى فرنسا عام 2005 بدعوة من فرانك ريبو الرئيس التنفيذي
لمجموعة دانون، واقترح فيها يونس أن يتم تأسيس مشروع مشترك بين جرامين ودانون بهدف
تقديم طعام مغذي لأطفال بنجلاديش.
ومن ثم تم تأسيس شركة
جرامين دانون للأغذية بهدف تقديم غذاء صحي يومي لسكان بنجلاديش الفقراء منخفضي
الدخل المحرومين غذائيا ويساهم في تخفيف حدة الفقر من خلال نموذج إنتاج مجتمعي
فريد، لا تخصص فيه أية أرباح للشركاء في الاستثمار، وقد شارك في الاستثمار من
الجانب البنغالي أربع من مجموعة شركات جرامين، ومن الجانب الفرنسي مجموعة دانون.
بدأ إنتاج المشروع بنوع
خاص من الزبادي اسمه شاكتي دوي وتعني زبادي الطاقة وهو مصنع من حليب كامل
الدسم، يحتوي على بروتين وفيتامينات وحديد وكالسيوم وزنك وعناصر غذائية أخرى
لتلبية الاحتياجات الغذائية لأطفال بنجلاديش وتحسين صحتهم، وعلى الرغم من أن
الأطفال هم المستهدف الرئيسي من المنتج، إلا أن البالغين يمكنهم تناوله، تبلغ قيمة
العبوة الـ 80 جرام 6 تكا فقط (أي 0.06 يورو) وهو سعر مناسب لفقراء بنجلاديش.
يقوم المشروع بمكافحة
الفقر من خلال خلقه فرص بيزنس وتوظيف للفقراء، حيث أن المواد الأولية للإنتاج
شاملة الألبان سيتم توريدها محليا من صغار المربين من فئة أفقر الفقراء، كما أن
نساء جرامين الفقيرات هم من سيقوم بتوزيع الزبادي من بيت لبيت مع الحصول على نسبة
10% من قيمة المبيعات.
وقد ساعدت جرامين دانون
بذلك على خلق 1600 فرصة عمل تغطي مساحة 30 كليو متر حول المصنع، وقد بدأ العمل في
الشركة بتأسيس مصنع في بوجرا (350 كم إلى الشمال من العاصمة دكا) على مساحة 7 آلاف
متر مربع بطاقة إنتاج يومية تبلغ 3 آلاف كيلو جرام (تصل إلى 10 آلاف كيلو في
2008)، ومن المخطط أن يتم بناء 50 مصنع صغير خلال السنوات العشر القادمة.
وقد اتفقت الشركات
المشاركة في الاستثمار على عدم الحصول على أرباح من المشروع، وعلى رد عائد
المبيعات كاستثمارات جديدة في المشروع لخلق فرص إضافية، إضافة إلى ما سبق فإن
عمليات الإنتاج في المصنع تتم باستخدام الطاقة الشمسية، بينما يتم تعبئة الزبادي
في عبوات صديقة للبيئة.
النموذج الثاني: جرامين فيوليا المحدودة للمياه:
تتوافر في بنجلاديش مصادر كثيرة
للمياه العذبة تتمثل بشكل أساسي في المياه الجوفية غير العميقة والتي يسهل
استغلالها، لكن تلك المياه ولأسباب جيولوجية بحتة ملوثة بالزرنيخ بتركيزات خلقت
مشكلة صحية شائعة، حيث بدأت المستشفيات في بنجلاديش منذ بداية التسعينيات في
الإشارة في تقاريرها إلى الزيادة الكبيرة في حالات التسمم بالزرنيخ والتي تصيب
اليوم 30 مليون بنغالي وتسببت في وفاة العديد منهم.
ومن ثم توافقت إرادات كل
من بنك جرامين وشركة فيوليا للمياه على أن يتشاركا خبراتهما لتأسيس شركة جرامين
فيوليا المحدودة للمياه عام 2008 من أجل جعل المياه النظيفة والآمنة متاحة لسكان
القرى في المناطق الفقيرة من بنجلاديش، على أساس أن أجرة استهلاك المياه المناسبة
لدخول الفقراء والتي ستجمع من المشروع سوف تساعد في توسعة تغطية المشروع.
كما أنه سوف يتم تصنيع
وحدات تنقية المياه محليا من خلال مبدأ نقل سر الصنعة من شركة فيوليا للمياه، وسوف
يساعد بنك جرامين من خلال شبكته الاجتماعية الواسعة في جمع أجرة استخدام المياه
النقية من الفقراء بطرق مناسبة، وسوف يساعد المشروع على خلق 10 وظائف في كل قرية
من القرى التي يتم فيها تشغيل المشروع.
وقع الاختيار على قرية
جولماري التي تقع على بعد 100 كلم من العاصمة دكا لبدء المشروع، يقطن القرية 20-25
ألف نسمة، سوف تتوافر لهم المياه النقية المتوافقة مع مواصفات منظمة الصحة
العالمية لأغراض الشرب والطهي. تبلغ استثمارات المشروع 500 ألف يورو تهدف للبدء
ببناء وحدات تنقية للمياه في خمس من أفقر قرى وسط وجنوب بنجلاديش يقطنها حوالي 100
ألف نسمة.
النموذج الثالث: باسف جرامين
حيث تعاني بنجلاديش من الكثير
من المشاكل الصحية مثل سوء تغذية الأطفال والأمهات، والملاريا وغيرها، ومن ثم فقد
تأسست شركة باسف جرامين BASF
Grameen بالشراكة بين شركة باسف (شركة ألمانية من أكبر الشركات الكيميائية
في العالم) وبين وقفية جرامين للرعاية الصحية.
والشركة هي بيزنس اجتماعي
يستهدف تحسين صحة سكان بنجلاديش من خلال تحسين مستوى التغذية، ومن خلال الحماية من
الأمراض الناتجة عن الحشرات، وذلك من خلال إنتاج ناموسيات طويلة العمر للحماية من
لدغ البعوض، وأكياس للمغذيات الدقيقة المتعددة، وسوف يستفاد من شبكة فقراء جرامين
في توزيع المنتجات في الريف، كما سيتم توزيعها عبر المدارس والصيدليات ومحلات
البقالة في الحضر كمنتجات عامة.
من جرامين إلى البيزنس الاجتماعي
لعله من المفيد في نهاية هذه
الإطلالة أن نشير إلى عدة أمور:
- أن بنك جرامين
(أو بنك الفقراء) نفسه هو من أهم أمثلة البيزنس الاجتماعي ولذا فإن موقع
"معمل جرامين الابتكاري" يعتبره "أم البيزنس الاجتماعي".
- أن مجموعة شركات
جرامين والتي تجاوزت العشرين شركة في كافة مجالات الحياة من المزارع السمكية للغزل
والنسيج للاتصالات للتعليم للطاقة لغيرها، كلها نماذج أخرى للبيزنس الاجتماعي
صاحبت ورافقت تجربة جرامين.
- أن يونس ربما لم
يبلور فكرة ويصك مصطلح البيزنس الاجتماعي ويقعد له قواعد وأسس إلا مؤخرا، لكنه كان
يمارسه – أو شيئا قريبا منه - بالفعل منذ تأسيسه بنك جرامين وشركاته
- أن هذا الصنف من
العمل الاقتصادي الذي يستهدف تحقيق مصالح اجتماعية للفقراء والمحرومين يحتمل طيفا
واسعا من الابتكار في الحجم ومجالات العمل والشكل القانوني والإداري، مع ضرورة
الحفاظ فقط على المبادئ السبع للبيزنس الاجتماعي كما وضعها مؤسسها حفاظا على روحه
والهدف منه.
- أن هذا الصنف من
أشكال مساعدة الفقراء وسائر الفئات المستهدفة بالزكاة والصدقات يمكن أن يكون شكلا ابتكاريا
جديدا لإنفاق الزكاة أو إيقاف الوقفيات على تلك الفئات بشكل عملي مستدام يحدث
تنمية في المجتمع بالقدر الذي يحل فيه مشكلات اجتماعية لفئات محرومة.
مصادر:
- موقع "معمل جرامين
الابتكاري": http://www.grameencreativelab.com/
- صفحة الويكيبيديا حول البيزنس
الاجتماعي: http://en.wikipedia.org/wiki/Social_business
- صفحة جرامين دانون على
الويكيبيديا: http://en.wikipedia.org/wiki/Grameen_Danone
http://www.onislam.net/arabic/nama/success-stories/124537-social-business.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه