الدكتور إسماعيل عصام زيد الكيلاني *
تنتقل الآثار المدمرة لسوء التغذية سواء للأب أو للأم أو كليهما من جيل إلى الجيل الذي يليه تماماً ، كما تنتقل فوائد التغذية الجيدة عبر الأجيال و تنتقل هذه الآثار عبر الجينات المنقولة من الأبوين إلى أطفالهما . وإن توفير بداية تغذوية قوية للطفل لها أثر يدوم طوال الحياة على نموه الجسدي والعقلي والاجتماعي و ينقله لأجياله القادمة هو أيضاً.
ويعمل سوء التغذية على إضعاف جهاز المناعة في الجسم، مما يجعل الطفل عرضة للإصابة بالأمراض أكثر من غيره ، ويزيد من شدة مرضه ويُعيق من تعافيه وشفاءَه. والطفل المريض بدوره سُرعان ما يُصاب بسوء التغذية وهي أيضاً تعيق من تعافي الطفل بسرعة . وبإستطاعة كل من الرضاعة الطبيعية و المكملات الغذائية ، الملائمتين لعمر الطفل، إلى جانب توفير الرعاية الصحية الملائمة له، أن تكسر هذه الدائرة المفرغة.
سوء تغذية الأمهات
يبدأ المستقبل التغذوي للطفل قبل أن تحمل به أمه ، أو بعبارة أخرى منذ أن كانت هذه الأم طفلة أو جنيناً، ويرتبط مستقبل الجنين الجديد بالوضع التغذوي لأمه قبل حملها به و بتغذيتها وهي جنين و تغذيتها و هي طفلة . ومن المحتمل أن تلد الأم المصابة بسوء التغذية المزمن رضيعاً يعاني من نقص الوزن عند الولادة، و قد ينمو هذا الوليد متقزِّماً كطفل وقد يُسهم هو الآخر بدوره في المستقبل في ولادة رضيع آخر يعاني من سوء التغذية أيضاً . أما المرأة الجيدة التغذية، التي تجاوز عمرها 18 عاماً، فلديها فرصة أكبر بكثير في المحافظة على الحمل، ولدى طفلها فرصة أكبر كذلك في النمو بصحة وعافية.
إن القضاء على سوء التغذية لدى الأمهات يمكن أن يقلّل بمقدار الثلث تقريباً من حدوث الإعاقات لدى أطفالهن الرّضع. ومن المهم أيضاً أن تتناول الأمهات الحوامل مجموعة متنوعة من الأغذية الصحية المحتوية على كل العناصر الغذائية اللازمة للأم وللجنين ، بالإضافة إلى أن تتناول الجرعة الإضافية اللازمة من الفيتامينات و المعادن و العناصر الأساسية ، وأن تأخذ قسطاً كافياً من الراحة .
الثلاث السنوات الأولى في حياة الإنسان
تعتبر الفترةُ الزمنية منذ بداية الحمل وحتى إتمام السنة الثالثة من عمر الطفل فترة نمو سريع جداً ، وتمثّل فرصة فريدة لتزويد الطفل بأساس تغذوي مناعيٍّ قوي. فهي الفترة التي تتشكّل فيها أجهزة جسم الطفل وأنسجته ودمه ودماغه وعظامه، كما تتشكّل خلالها إمكانياته الفكرية والجسدية. فإذا كان الطفل يعاني من سوء التغذية خلال هذه السنوات المبكرة من حياته، فإن الكثير من الضرر الذي يلحق به لا يمكن استدراكه في المستقبل . وإن الحل يكمن في الوقاية من سوء التغذية في هذه الفترة الزمنية ، فلو أن كل طفل أُرضِعَ رضاعة طبيعية خالصةً لمدة ستة أشهر على الأقل سواء من حليب الأم أو أي حليب صناعي مخصص للرضع ملائم لعمر الطفل ، لكان من الممكن إنقاذ حياة حوالي (1.3) مليون طفل آخر سنوياً، وملايين من الأطفال وغيرهم سوف يستفيدون من ذلك، من حيث الصحة، والذكاء والإنتاجية. إن حليب الأم طبعاً هو الغذاء الكامل و الوحيد للطفل فهو يحتوي على كل المغذِّيات، والفيتامينات و المعادن و العناصر الأساسية و الضرورية التي يحتاج إليها الرضيع لينمو نمواً طبيعياً خلال الأشهر الستة الأولى من الحياة. والرضاعة الطبيعية هي التي تحفز جهاز المناعة عند الرضيع واستجابته إلى اللقاحات. ويحتوي حليب الأم على المئات من الخلايا والبروتينات والدهون والهرمونات و عوامل المناعة من الأمراض المعدية و أيضاً يحتوي على الأنزيمات المعُزِّزة للصحة، فضلاً عن احتوائه على عوامل أُخرى لا تُوجد إلا في حليب الأم.
وتتوافر للمواليد الجدد الذين يرضعون رضاعة طبيعية في الأشهر الستة الأولى من حياتهم، فرصة في البقاء تفوق بستة أضعاف على الأقل الفرصة التي تسنح للمواليد الذين لا يتلقون هذه الرضاعة الإلهية ؛ وذلك لأن حليب الأم يحتوي على عوامل فريدة تحمي الأغشية المخاطية للقنوات المِعَدية والمعوية والتنفسية، وعلى خلايا وعوامل مناعية تكافح بنشاط الالتهابات بشكل ممتاز لا تتوفر إلا في حليب الأم ، مما يقي الرّضّع من الأمراض الناجمة عن الإسهال والتهابات الجهاز التنفسي العلوي . ويمكن للرضاعة الطبيعية الخالصة أن تُخفض أيضاً فرصة انتقال فيروس نقص المناعة البشرية من الأم الحاملة لهذا الفيروس إلى مولودها.
قال تعالى في كتابه الكريم :
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
سورة البقرة:أية رقم"233"
ويجب أن يبدأ الطفل، بعد بلوغه ستة أشهر و ليس قبل ذلك ، بتناول الأغذية المكملة الغنية بالمغذيات التي تزوّد جسمه بالمزيد من الفيتامينات والمعادن والبروتينات والكربوهيدرات اللازمة لإشباع حاجات النمو لديه. و إنني بحسب خبرتي لكوني أخصائي تغذية وعضو في جمعيات التغذية الأمريكية، أتمنى أن ترضع كل أم ابنها حليباً فقط سواء منها أو حليب صناعي مخصص للرضع لمدة ستة أشهر و ممنوع أن يأكل الطفل أي شيء سوى الحليب طوال الستة أشهر الأولى من حياته. و يجب على الأم أن لا تسمع كلام شركات الأغذية التجارية و الدعايات المروجة ، التي بعضها يكتب على العلبة من عمر أربع شهور . فكثيراً من الأمراض شاهدنا ونشاهد لحد الآن و بالأخص الأمراض الجلدية مثل الأكزيما و الحساسة و الصدفية بسبب إطعام الطفل الطعام قبل إتمامه الستة أشهر. وعملية الإرضاع أيضاً مفيدة جداً للأم من ناحية عاطفية و جسدية و وقاية من العديد من الأمراض و أولها سرطان الثدي . و يجب أن يبقى الطفل يأخذ الحليب المخصص لعمرة لحين وصوله إلى سن الأربع سنوات على الأقل من عمره، طبعاً بالإضافة إلى الأطعمة البيتية الأخرى. و يفضل أن لا نطعم أطفالنا الأطعمة الجاهزة المحتوية على المواد الحافظة و الأصباغ مثل الشيبس و العصائر لأن لها أضرار مستقبلية و أضرار أنية مثل الحساسة و حدوث الالتهابات . و بالأخص الحلويات و العصائر فقد قرأت قبل فترة وجيزة أن النسب العالية من السكريات الموجودة في العصائر و الحلويات سبب رئيسي في تلف البنكرياس و إصابة الطفل بمرض السكري لأن البنكرياس في ذلك السن يكون غير مستعد لإفراز كميات هائلة من الأنسولين لمعادلة السكر الموجود في تلك العصائر . و يفضل أن لا يأكل الطفل قبل أن يتم عامه الأول الأسماك وذلك أولاً لأنها مواد محفزة للحساسة ثانياً لأنها لا تؤخذ مع الحليب و طبعاً الطفل يرضع حليب و بالتالي نخشى حدوث تسمم غذائي و إذا أردنا أن نطعم الطفل الأسماك يجب أن تكون بمعزل عن الحليب . و يجب أن تكون أطعمة الأطفال مطبوخة جيداً حتى لا يبقى جراثيم في طعامه . البيض يطعم إلى الطفل بعد الشهر العاشر على أن يكون مطهو جيداً أما صفار البيض لوحده دون البياض يعطى إلى الطفل من بعد الشهر السادس على أن يكون مطهو جيداً .
حساسية الأطفال الناتجة عن بعض الأطعمة
السبب فيها إطعام الطفل قبل أن يكمل الستة شهور من عمره .
على الرغم من أن حساسية الطعام تصيب عدداً قليلاً من الأطفال، فإن هناك محاولات عديدة لمنع حدوثها من قبل الباحثين. وتبعاً لدراسة أجريت في مجلة الحساسية والمناعة الأمريكية ، وجد أن الأطفال المعرضين لخطر الإصابة بالحساسية ولم يتم إطعامهم حليب الأبقار و البيض و الفول السوداني و منتجات الصويا أثناء مرحلة الرضاعة، كما أن أمهاتهم لم يتناولن هذه الأطعمة طيلة فترة الحمل قد أدى إلى انخفاض نسبة حدوث الحساسية للطعام في أول سنتين من عمر الطفل.
يقول أحد الباحثين في هذا المجال أن نسبة كبيرة من الأطفال المصابين بحساسية للبيض والحليب تختفي لديهم أعراض الحساسية خلال 3-5 سنوات من عمر الطفل ، أما الأطفال المصابين بحساسية من الفول السوداني أو فول الصويا والسمك فقد تستمر الحساسية لديهم حتى السنة السابعة من عمر الطفل وقد تستمر هذه الأعراض مدى الحياة عند بعض الأطفال، وكانت هذه النتائج بناءً على دراسات عديدة في هذا المجال.
ويضيف هذا البحث إلى أن التجنب المبكر للأطعمة المسببة للحساسية هي الخطوة الرئيسية لتجنب أعراض الحساسية لدى الأطفال المعرضين للإصابة بها . ومن علامات حساسية الطعام التي تصيب الأطفال: الأكزيما، الطفح الجلدي، عسر التنفس والإستفراغ من الحليب الصناعي، ولحسن الحظ فإن هذه الأعراض الأولية تساعد على معالجة المرض في بدايته ومنع إستفحاله في الجسم بحيث أننا لا نعود نعطي هذه المواد للطفل مرة أخرى .
وبما أن الأطفال المصابين بحساسية الطعام معرضين أكثر من غيرهم للإصابة بأمراض الجهاز التنفسي عند الكبر، فإنه من الأفضل أن نكتشف الطعام الذي يسبب الحساسية في وقت مبكر لنتمكن من التدخل بمنع أعراض الحساسية الأولية من التطور إلى أعراض متقدمة مثل الأزمة الصدرية والتهاب الأنف و الجيوب المزمن .
* بكلوريوس صيدلة / تركيا - ماجستير تغذية / أمريكا
عضو جمعية التغذية الأمريكية
AMERICAN SOCIETY FOR NUTRITION
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه