مدونة ثقافية تعنى بالإبداع والابتكار والتنمية البشرية

اخر الأخبار

Post Top Ad

السبت، 26 سبتمبر 2009

فوضى النظريات حول ظاهرة الاحتباس الحراري

هل نحن في بداية مرحلة جديدة في نظامنا البيئي؟ وهل الكرة الأرضية مقبل على فترة تغير مناخية حادة؟ وماهي مسؤولية نشاطات الإنسان اليومية في حدوث خلل في بيئة كوكب الأرض؟ أم هل هي بداية لعصر جليدي لم تتضح معالمة بعد؟

اسئلة كثيرة تطرح نفسها، وكانت تلح علي وأنا اعد مع فريق مجلة القافلة ملفا خاصا حول الإحتباس الحراري لكوكب الأرض، يتناول الموضوع من كافة جوانبه، وليبرز الاصوات الخافته التي تناولت هذا الموضوع والتي تجاهلتها وسائل الاعلام العالمية.
المهندس أمجد قاسم

بموازاة الأصوات المنبهة إلى خطورة حال الكرة الأرضية بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري التي نتجت عن النشاط البشري، تظهر بين فينة وأخرى أصوات مخالفة تقول إن الظاهرة طبيعية وليست من صنع البشر.

وبموازاة الأصوات المتحدثة عن دور المصالح الاقتصادية والمالية لبعض الجهات في السعي إلى إخفاء خطر الظاهرة، هناك من يرى أن الصرخة المدوية التي تصدر عن  حماة البيئة  ليست هي الأخرى سوى تعبير عن مصالح أخرى.

وقد لقي المشككون في مسؤولية البشر عن الاحتباس الحراري دعماً لموقفهم من خلال كون العام الماضي 2008م، كما بينت عمليات الرصد الجوي في العالم بأسره، الأبرد منذ بداية القرن الحالي.

فأين الحقيقة؟

القافلة تعرض وجهتي النظر على ما فيهما من تضارب وتناقض، من خلال إسهامات شارك في إعدادها

المهندس أمجد قاسم   و  ليلى أمل

تلمساً لموضع الحقيقة وسط فوضى التحليلات والنظريات حول قضية لا تحتمل مثل هذه الفوضى؛ لأنها تتعلق بحال كوكبنا الأرض وبنوعية حياتنا عليه.

1- المساجلة والشكوك في أول الطريق

في سنة 1995م، رفع أكثر من ألفي عالِمْ، من مئة بلد، إلى الأمم المتحدة، تقريراً جاء فيه أن النشاط الصناعي البشري يبدِّل المناخ في الكرة الأرضية. وبعد سنوات خمس، أبدى كثير من هؤلاء العلماء خوفهم من أمرين: أن المناخ يتبدل بوتيرة أسرع مما كانوا يظنون، وأن بيئة الأرض أشد هشاشة مما كان يُعتَقد، حيال أقل تغيّر في درجات الحرارة. وحذروا من أن معدل الحرارة في العالم سيرتفع في القرن الجاري، بين درجتين وخمس درجات مئوية. وكانت دراسات أخرى قد أشارت إلى أن الكرة الأرضية كانت تحتَرّ نصف درجة مئوية كل قرن، حتى سبعينيات القرن الميلادي العشرين، لكن هذه الوتيرة بلغت درجتين مئويتين كل قرن، بعدئذ، وأن أعماق المحيطات تمتص هذه الحرارة الزائدة وتخفي بذلك المشكلة، إلى حين.

ولما كانت الكرة الأرضية كتلة هائلة، لا تتغير أحوالها العامة بسهولة ولا بسرعة، فإن تغيرها سيكون صعباً إصلاحه إذا ما حدث. وقد ظلت صالحة للعيش البشري بالظروف التي نعرفها اليوم، منذ 10 آلاف سنة، لكن المقادير التي ينتجها البشر، أعادت وتيرة تزايد الكربون في جوّها 400 ألف سنة. ولكن سرعان ما انبرت مجموعة من الجهات في البلدان الصناعية المتقدمة، المتضررة من أي قيد بيئي يلجم نموها الحر، لتجابه هذه التقارير، ولتنشر في الصحف دراسات ومقالات تناقض المعلومات التي قدمها علماء البيئة، ولتزرع الشك فيما قالوه.

واحتارت الصحف النزيهة، من تصدق؟ وانحاز بعض الصحافة إلى الفريق هذا أو ذاك، وخشي بعضها الآخر اتخاذ موقف، حالما ظهر صراع مصالح في الموضوع. وزاد الطين بلة أن تلك الصحف التي عرضت وجهتي النظر، سعياً في موقف موضوعي، أوحت وكأن هذا التوازن في مقالاتها، يعطي الموضوعية حقها، مع ان الأمر علمي لا صحافي، ولا بد من أن تكون للعلم فيه، لا للصحافة، الكلمة الفصل. وكانت الكفة في محافل العلماء راجحة بقوة لناحية الخوف على البيئة. ثم تعقّد الأمر أكثر، حين صار الموضوع سياسياً أيضاً، مع تنامي الأحزاب الخضر، التي صارت متهمة بتضخيم الحقائق لمصلحتها، وصار خصومها السياسيون متهمين باستصغار المشكلة، لخدمة أغراضهم. وفيما كان الشك يتعاظم في حقيقة الأمر، كانت مقاومة المعالجة المطلوبة تشتد معه. حتى أن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وخصمه السياسي آل جور، الذي ترشح ضده للرئاسة الأمريكية سنة 2000م، وقفا على طرفي نقيض، فرفض الأول التزام معاهدة كيوتو لحماية البيئة وعطَّلها، لارتباطه بمصالح الصناعة كما قيل، في البلد الأكثر إسهاماً في إنتاج ثاني أكسيد الكربون، وحصل الثاني على جائزة نوبل، لوقوفه محامياً عن البيئة كما قيل، فيما كان خصومه يتهمونه بأنه إنما عارض الوقود الأحفوري لارتباطه بمصالح صناعة محطات الطاقة النووية، التي يهمها المبالغة في التخويف من الوقود الأحفوري.

ما الذي جاء في معاهدة كيوتو؟ إن نظام المناخ في الكرة الأرضية معقد جداً، لكن فيه بضع حقائق أساسية بسيطة. ففي الغلاف الجوي غازات تحبس الحرارة الآتية من الشمس، وتمنع ارتدادها إلى الفضاء. وبخار الماء واحد منها. لكن نسبة بخار الماء في الهواء ثابتة نسبياً عبر العصور. أما ثاني أكسيد الكربون، فقد نعمت الأرض منذ 10 آلاف سنة، بنسبة منه تبلغ 280 جزءاً في المليون. لكن منذ 100 سنة تقريباً أخذنا نحرق من الوقود الأحفوري الكثير، حتى زادت نسبة ثاني أكسيد الكربون إلى 360 جزءاً، وينتظر بالوتيرة الجارية الآن، أن تتضاعف إلى 560 جزءاً في المليون في هذا القرن.

وحين عقدت 160 دولة مؤتمر كيوتو في اليابان في أوائل ديسمبر 1997م، قدَّم العلماء أدلتهم، فاتفقت الدول من دون أن تجادل في المعطيات العلمية، على أن تتخذ سلسلة خطوات لتحسين جدوى استخدام الطاقة، وتحسين قطاعي الصناعة والنقل في هذه المسألة. لكن الولايات المتحدة انفردت بفتح معركة طاحنة لرفض المعاهدة، لا سيما بعد انتهاء عهد الرئيس السابق بيل كلنتون.

ظهور الأصوات المعارضة

في البدء حين أطلق النفير في التسعينيات، محذراً من خطر الاحتباس الحراري الزاحف، كان صوت معارضي هذا النفير خافتاً، فلم يجرؤ سوى نفر قليل على معارضة التحذير البيئي، أو ادعاء المبالغة فيه. لكن هؤلاء أخذوا يرفعون الصوت شيئاً فشيئاً.

أحسن علماء البيئة مع مر السنين، توثيق ملفهم ودعم قضيتهم، حتى تألبت دول العالم على معرقلي معاهدة كيوتو، وأخذت الحكومات، ولا سيما في الدول الصناعية الأوروبية، تحسّن أداءها البيئي، وتخفض بواعث الغازات، أكثر من النسبة التي التزمتها في كيوتو. من جهة أخرى، حسَّن معارضو كيوتو ملفهم بدورهم، مركزين على أن الاحتباس الحراري ظاهرة طبيعية لا دخل للنشاط البشري فيها. وحشدوا لدعم هذا الملف علماء وصحافيين ودراسات، كثير منها جاد.

لكن نفوذ الجهات المعارضة للمعالجة البيئية تقلص كثيراً، حين شعرت هي أولاً، ثم شركات التأمين العاملة معها، أن المسألة قد تنقلب عليها. فسارعت شركات صناعية عديدة إلى اعتماد سياسة أشاحت عن سلوك المواجهة، وأخذت تبدي اهتماماً حقيقياً بالبيئة والسلع الرفيقة بالبيئة. وكان لشركات التأمين دور أساس في تبديل المزاج. ففي الثمانينيات من القرن الميلادي الماضي، خسرت شركات التأمين معدل ملياري دولار أمريكي في السنة، بسبب الأعاصير والجفاف وارتفاع مياه البحر والظروف المناخية المتقلبة، ولذا ضغطت على زبائنها من شركات صناعية على اختلافها، لتغير موقفها، حتى صار بعض صانعي السيارات وغيرها، يتباهى بصورة جديدة رسمها لنفسه، في طليعة صفوف المدافعين عن البيئة.

2- هذا ما يقوله البيئيون
يمتلك البيئييون الذين يلقون بالملامة عن الاحتباس الحراري على السلوك البشري ملفاً ضخماً مليئاً بالأرقام الدقيقة وبالأمثلة التي تضفي على تحذيراتهم المزيد من الصدقية. فمراكز رصد المناخ ومراقبة الطبيعة تقدر أن المصانع والسيارات ومحطات الكهرباء تنفث في الجو كل سنة 23 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون وغازات الدفيئة. وقد زاد تركيز ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض %31 عما كان قبل الثورة الصناعية في أوروبا سنة 1750م. ولم يحدث هذا التركُّز من 420 ألف عام. وقد عرف العلماء هذا الأمر من فحص عينات ثلج قطبية يقرب عمرها من نصف مليون سنة.

وقد رَفع  نداء علماء العالم من أجل العمل  سنة 1997م، عريضة إلى زعماء العالم المجتمعين لمناقشة تفاهم كيوتو، الداعي إلى خفض وتيرة بث غازات الدفيئة في الجو، دعاهم فيها إلى  اعتماد قوانين ملزمة ، لتخفض الدول الصناعية مقدار الغازات الحابسه للحرارة التي تبثها في الجو. ووصف النداءُ الاحتباسَ الحراري بأنه  واحد من أخطر ما تواجهه الأرض والأجيال الآتية . وقد وقع النداء، الذي كتبه في الأصل  اتحاد العلماء القلقين  سنة 1992م، أعضاء الاتحاد وعددهم 1500 من أشهر علماء العالم، وبينهم معظم الفائزين بجائزة نوبل للعلوم.

ومن الحجج العلمية التي يستدل بها هؤلاء، نذكر:

• ازدياد حرارة الجو عند الخطين المداريين الشمالي والجنوبي، حسبما قيست من الأقمار الصناعية.
• العينات التي أخذها العلماء من طبقات الثلوج القطبية، وأثبتت أن تركز ثاني أكسيد الكربون ازداد كثيراً منذ القرن الماضي.
• نسبة ثاني أكسيد الكربون في الهواء التي كانت 278 جزءاً في المليون في ثمانينيّات القرن العشرين، وصارت 383 جزءاً سنة 2005م.
• القول بأن النشاط الشمسي الذي ازداد في السنوات الأخيرة، ويعزو إليه بعض العلماء احترار الأرض، ليس مسؤولاً إلا عن جزء من هذا الاحترار.

ويرى البيئيون أن زيادة نسبة غازات الدفيئة في الجو بهذا الشكل المتسارع، هي المسؤولة عن تسارع وتيرة الكوارث الناجمة عن تبدل الأحوال المناخية، والمتزامنة معها. فسنة 1998م بدأت بعاصفة ثلج كاسحة، تركت 4 ملايين نسمة في مقاطعتي كيبك ونيو إنجلاند الكنديتين، بلا كهرباء. وسجل ذلك العام أول حرائق في الغابات الاستوائية في البرازيل والمكسيك. وشهد صيفه موجات حر غير عادية في المشرق العربي والهند وتكساس، وتوالت أيام الحر الذي فاقت درجته 38 درجة مئوية 29 يوماً، وهي مدة قياسية. وكان الجفاف في المكسيك في تلك السنة أسوأ ما مر بالبلاد في 70 سنة.

وفي السنة التالية 1999م، بلغ الجفاف في ولايات الغرب الأوسط والشمال الشرقي، أقصى الحدود المعروفة، وأعلنت حالة الكوارث في ست ولايات، ومات من الحر في هذه الولايات 271 شخصاً، وألحق الإعصار فلويد أضراراً بأكثر من مليون شخص في شمال كارولاينا. وفي الهند قتل إعصار هائج 10 آلاف شخص. وفي شتاء تلك السنة، أدى انزلاق الأرض وسيول المطر إلى قتل 15 ألف شخص في فنزويلا. واجتاحت أوروبا الشمالية عواصف في ديسمبر، لم يسبق لشدتها مثيل، وبلغت قيمة أضرارها 4 مليارات دولار أمريكي. ومرت على بوسطن، في الولايات المتحدة، 304 أيام من دون ثلج، وهي مدة قياسية.

وفي السنوات الماضية زادت وتيرة الأعاصير الهوج في خليج المكسيك، وشرق آسيا، واشتدت قوتها. وكان أشهرها إعصار كاترينا، الذي دمر في صيف 2005م، مدينة نيوأورليانز. أما الصين فعانت تبدل المناخ، معاناة شديدة. ويقول العلماء، إن مواصلة استخدام الصين الفحم الحجري، بوتيرة استخدامه اليوم، ستزيد نسبة ثاني أكسيد الكربون %17 في غضون 20 عاماً. وفي سنة 1998م، فاض نهر يانغتسي الذي يقيم في حوضه 400 مليون نسمة، فغرق ألفا شخص، وتشرد 14 مليوناً، ومكثوا مدة بلا مأوى. ودمر الطوفان 11 مليون آكر من المحاصيل الزراعية.

وقد يظن بعض الناس أن كثيراً من هذه الكوارث لا ينم عن ارتفاع في درجة الحرارة، بل عن هبوطها، وأن هذا الأمر يفسد نظرية الاحتباس الحراري. ولكن البيئيين يقولون بسرعة إنهم أكدوا منذ بدايات انتباههم إلى هذه القضية، إن الاحتباس الحراري، وإن كان يعني حرفياً ازدياد معدل الحرارة على سطح الأرض، فإن ذيوله لن تقتصر ببساطة على موجات الجفاف والحر. إذ ان اختلال النظام البيئي نتيجة الاحتباس الحراري سيؤدي حكماً إلى أن تتخذ الأحوال الجوية طابعاً أكثر عنفاً، بما في ذلك ازدياد البرودة الموسمية وصولاً إلى احتمال دخول مناطق شاسعة من الكرة الأرضية في عصر جليدي جديد.

3- علماء يبرِّئون النشاط البشري
لم تجمع محافل العلماء على قبول نظرية تحميل النشاط البشري التبعات عن الاحتباس الحراري. ففي سنة 1992م نفسها، وقَّع 47 عالماً  إعلان علماء المناخ في شأن التحذير من الدفيئة . وجاء فيه أن كثيراً من النظرية المذكورة يستند إلى آراء علمية غير ثابتة. وفي السنة ذاتها، أعلن 4000 عالم، منهم 72 من الفائزين بجائزة نوبل،  نداء هايدلبرج ، وأغفلوا فيه الحديث الصريح عن نظرية ربط الاحتباس الحراري بنشاط البشر، لكنهم دعوا إلى اعتماد  المعايير العلمية لا الآراء المسبقة غير المنطقية  في سياسة الدول.

ثم أعلن  بيان لايبزج عن التبدل المناخي العالمي  (في 1995 و1997م) أن القائلين بعلاقة نشاط البشر بالاحتباس الحراري لا صفة علمية لهم، في مجال علم المناخ. وفي أبريل 2006م، رفع  ستون عالماً  كتاباً مفتوحاً إلى رئيس الوزراء الكندي ستيفن هاربر، دعوه فيه إلى إعادة النظر في المسألة، لأن الموقعين على عريضة العام 1992م، لم تكن لهم صفة في علم المناخ، وكان بينهم اثنان فقط، توليا رتباً جامعية في الاختصاص. أما الآخرون فكانوا صحافيين أو علماء اجتماع وغيرها. وأصدر العلماء الذين يردون الاحتباس الحراري إلى عوامل طبيعية دراسات كثيرة، تلخص حججهم الأساسية وهي:

• إن حرارة الجو عند المدارين لو كانت من أثر غازات الدفيئة لكان الاحترار في طبقات الجو العليا أسرع منه على سطح الأرض. والحال أن الاحترار في الحالين يسير بالسرعة ذاتها.
• أن نسبة ثاني أكسيد الكربون في ثلوج القطب تزيد وتنقص في وتيرة مدتها نحو ألف سنة. وحدث هذا من دون النشاط الصناعي في الماضي.
• إن معدل حرارة الأرض انخفض بين سنتي 1940 و1970م، على الرغم من زيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو.
• إن دراسة وضعها سيث يونج، في جامعة ولاية أوهايو الأمريكية، أكدت أن الأرض كانت تجتاز العصر الأوردوفيشي الجليدي، فيما كانت نسبة ثاني أكسيد الكربون مرتفعة للغاية، وتبلغ 4400 جزء في المليون.
• إن سنة 2007م كانت أبرد سنة منذ أن بدأ وضع سجلات علمية عن المناخ، في العصر الحديث.
• إن النشاط الشمسي الآن يبلغ ذروة لم يبلغها منذ 8000 سنة، وهو مستمر منذ نحو 70 سنة. وهو أرجح تفسير علمي لاحترار الأرض.

إن إدراك ما إذا كانت حرارة الأرض سترتفع أم ستنخفض أم ستبقى ثابتة تتطلب دراسة شاملة لكل العوامل التي تؤدي إلى تسخين الغلاف الجوي والعوامل التي تؤدي إلى تبريده، وأيضاً التي تؤدي إلى ضبط درجة حرارته. فالنظام المناخي للأرض شديد التعقيد، وهناك تفاعلات بين المئات من مكوناته والمؤثرات فيه. من هنا تغدو مقولة، إن ظاهرة الاحتباس الحراري ناجمة فقط عن الزيادة في تركيز الغازات الدفيئة، مقولة يشوبها بعض الشك وتحتاج إلى فهم أعمق ودراسة موسعة. فالتاريخ الطبيعي لكوكب الأرض شهد خلال حقب زمنية غابرة زيادة كبيرة في تركيز الغازات الدفيئة وارتفاعاً كبيراً في درجات الحرارة، أعقبها عصور جليدية طويلة.

يقول الباحث الجيوفيزيائي سيون ايكي اكاسوفو من جامعة ألاسكا، إن التغيرات في درجات الحرارة لكوكب الأرض والزيادة بوجه عام لدرجة حرارة الأرض، قد سجلت في قرون سابقة، عندما كان تركيز غاز ثاني أكسيد الكربون أقل مما هو عليه الآن بكثير. ويضيف أن الدراسات بينت ارتفاعاً لدرجة حرارة سطح الأرض في عام 1910م وانخفاضاً في عام 1975م، ويعزو ذلك إلى تغيرات طبيعية يشهدها كوكبنا من وقت إلى آخر. كذلك يؤكد عدد كبير من الباحثين، أن الاحترار الحراري هو جزء من الدورة الطبيعية لمناخ الأرض، وأن أسلافنا عاشوا عبر عشر فترات جليدية طويلة على الأقل خلال 780 ألف سنة مضت، تخللتها فترات دافئة، وأعقبتها دورات جليدية أخرى.

تعاقب الدفء والجليد

وأكثر مما تقدم، ترى بعض النظريات أن احترار الأرض هو مؤقت وقصير العمر، إذ ان كوكبنا يتجه إلى عصر جليدي.

فمن المعروف إنه خلال مليون سنة ماضية، تعرضت الأرض لعشرة عصور جليدية رئيسة، ولأربعين عصراً جليدياً صغيراً. ويرى بعض العلماء أننا حالياً في نهاية فترة دفيئة وعلى أبواب عصر جليدي جديد، مما يقلل من تأثير الغازات الدفيئة، بحيث لا تصبح هي العامل الوحيد لحدوث الاحتباس الحراري.

ويستدل بعض هؤلاء في تقييمهم للوضع الحالي بدراسة الدور الذي تلعبه البقع الشمسية على سبيل المثال، ويتمكنون من إيجاد رابط ما بينها وبين أحوال المناخ على الأرض، لجهة التزامن على الأقل. فخلال الفترة الممتدة من عام 1880 إلى عام 1940م شهدت الأرض نشاطاً شمسياً كبيراً أدى إلى زيادة درجة حرارة كوكب الأرض. وخلال عامي 1940 إلى عام 1960م قل النشاط الشمسي، مما أدى إلى انخفاض ملحوظ في درجة حرارة الأرض بوجه عام، وقد تكرر ذلك النشاط الشمسي خلال عقد السبعينيات والثمانينيات في القرن الماضي.

يقول الدكتور فيكتور مانويل فيلسكو هيريرا الخبير في شؤون البيئة من  جامعة المكسيك الوطنية المستقلة ، إن الأرض مقبلة على عصر جليدي صغير، سببه قلة النشاط الشمسي. وقد أعلن فيلسكو عن رأيه السابق في مؤتمر عالمي حول التغير المناخي، قائلاً إن تلك التغيرات لا يمكن أن تكون ناتجة عن الاحتباس الحراري فقط. ويصف فيلسكو الدراسات التي تعلل الزيادة في درجة الحرارة للكرة الأرضية وتعزوها لتراكم الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي فقط، بأنها خاطئة، والسبب يعود إلى أنها تعتمد كلياً على نماذج رياضية ولا تأخذ في الاعتبار النشاط الشمسي مثلاً، ويضيف أن نماذج التنبؤ المناخي، يجب أن تتضمن العوامل الداخلية كالنشاط البركاني، والعوامل الخارجية كالنشاط الشمسي.

وفي الوقت الراهن، يقول فيلسكو إن العالم يمر بمرحلة تناقص للنشاط الشمسي، ولذلك فإنه خلال العامين القادمين تقريباً، ستبدأ مرحلة عصر جليدي صغير ستستغرق من 60 إلى 80 عاماً، ونتيجة لذلك سيظهر الجفاف في العديد من الأماكن في العالم، وأن أوج ذلك العصر سيكون خلال 30 إلى 40 عاماً قادمة.
وحظي العلماء الذين يبرئون النشاط البشري من قضية الاحتباس الحراري، وحتى القلة منهم التي تشكك في حصول هذا الاحتباس، على دعم غير متوقع خلال العام الماضي 2008م. إذ أجمعت الأرصاد الجوية عبر العالم على أنه كان العام الأبرد خلال القرن الحالي.

فقد شهدت الصين أبرد سنة لها في المئة السنة الماضية. ونزل في بغداد ثلج لم تره في تاريخها المعروف. وبلغ غطاء الثلج في أمريكا الشمالية ذروة ما سُجل في 50 عاماً. وفي وسكونسن بلغ الثلج علواً، لم يبلغه منذ بدء التوثيق. وفي القطب الجنوبي كان الثلج قياسياً. وبلغت درجة الحرارة أدناها في شتاء 2007م، في ولايات منسوتا وتكساس وفلوريدا، وفي المكسيك وأستراليا وإيران واليونان وجنوب إفريقيا وغرينلاند والأرجنتين وتشيلي، وقائمة أخرى طويلة من البلدان.

وبقيت الأخبار أخباراً، حتى تحولت إلى حقائق علمية، حين أصدرت كل المؤسسات الكبرى المهتمة بالأمر في العالم تقارير أكدت فعلاً أن السنة الماضية 2008م، شهدت هبوطاً حاداً للحرارة في الكرة الأرضية. وراوح معدل الهبوط بين 0.65 و0.75 درجة مئوية، وهي أقل من درجة، لكنها في الواقع أزالت كل الاحترار الذي سُجِّل في القرن الذي مضى. وتدل النشرات الجوية في أوروبا وأمريكا منذ مطلع العام الجاري أن الشتاء الحالي كان أبرد (في بداياته على الأقل) من شتاء العام الماضي. فهل نحن فعلاً أمام بداية عصر جليدي، وهل كان احترار الأرض مجرد عاصفة في فنجان؟

4- الاحتباس الحراري يمطر ثلجاً والبيئيون يفسِّرون
من البديهي أن يتوقف المرء أمام كون العام الماضي 2008م الأبرد منذ سنوات حسبما أعلنت منظمة الأرصاد الجوية العالمية في تقريرها السنوي. ومن الطبيعي أن يتساءل ما إذا كانت حرارة الأرض ترتفع أم تنخفض؟ طالما أن متوسط درجة الحرارة على الأرض كان 14.3 درجة مئوية، وهو أقل رقم تم تسجيله منذ أعوام. ويقول خبراء الأرصاد الجوية إن نسبية الأمور هي جزء مهم من الإجابة، ويؤكدون أنه رغم برودته النسبية وسط سنوات هذا القرن، فإن عام 2008م كان سيعتبر عاماً دافئاً بصورة مفاجئة ومثيرة للدهشة في عقود سابقة. ولكي نفهم بالضبط ما الذي يعنيه الرقم 14.3 علينا أن نقارنه بأرقام أخرى أتت قبله.

يقدر الخبراء متوسط درجة حرارة الأرض خلال الفترة من 1961 وحتى 1990م بـ 14 درجة مئوية، وهي درجة الحرارة التي تُعد في الأوساط العلمية مقياساً معتمداً للحكم على التغير في جو الأرض. في 2008م ارتفعت درجة الحرارة بمقدار 0.3 درجة مئوية عن هذا الرقم، مما يضمه إلى الأعوام الدافئة رغم برودته التي نحسها بالمقارنة بالأعوام القليلة السابقة. فقد شهدت خلاله مناطق كثيرة من الأرض درجات حرارة أعلى من معدلاتها الطبيعية، خاصة المناطق القطبية التي ذاب الجليد فيها إلى أحد أقل مستوياته في هذا الصيف. وتؤكد منظمة الأرصاد الجوية العالمية إنه على الرغم من أن عام 2008م كان العام الأكثر برودة منذ بداية القرن الحالي، إلا أنه يحتل المركز العاشر في الأعوام الأكثر حرارة منذ العام 1850م، في قائمة يأتي على رأسها العام 1998م الذي ارتفعت درجة حرارة الأرض فيه إلى حد غير مسبوق حين سجَّلت متوسطاً قدره 14.52 درجة مئوية.

إذن .. التقارير المناخية تقول إن درجة حرارة الأرض آخذة في الارتفاع، لكن يبدو تصديق الأمر صعباً مع برودة الشتاء غير المعتادة. يقول الخبراء إننا نخطئ حين نستمد قراءتنا الخاصة لتغير جو الأرض، من النظر إلى الغيم والمطر وأحياناً الثلج عبر نوافذنا. لأننا نخلط ساعتها بين مفهومين مختلفين عن بعضهما تمام الاختلاف هما الطقس والمناخ. فالأول -الطقس- هو التغير الذي نختبره في درجات الحرارة والرياح والمطر من يوم إلى آخر. أما المناخ فهو متوسط حالة الجو خلال عقود وقرون وحقب زمنية كاملة من عمر الأرض. ولهذا فإننا لا نستطيع أن نحكم على التغير الذي يحدث في مناخ الأرض عن طريق قراءة زاوية  حالة الجو  في الجريدة اليومية، لكننا نحتاج لتتبع حالته على المدى الطويل خلال عقود متتالية.

دور  إل نينيو  و لانينيا

ترجع التغيرات التي نحسها على المدى القصير، والتي تسبب هذا التذبذب الذي نشعر به من شهر لآخر ومن فصل لآخر ومن عام لآخر في حالة الجو، إلى مجموعة من العوامل الطبيعية التي تمارس تأثيرها على جو الأرض. أحد أهم هذه العوامل هي الدورات الجوية التي تحدث في المحيط الهادئ، أكبر محيطات الأرض والذي يشغل المساحة الواسعة من الكرة الأرضية التي تحدها الأمريكتان من الشرق، وقارتا آسيا وأستراليا من الغرب. فالتفاعل بين هذا المسطح المائي الضخم والعوامل الجوية كحركة الرياح والضغط الجوي ودرجات الحرارة، يتحكم في الصورة النهائية لجو الأرض، ويحفظ ظواهره كما نعرفها في الأحوال العادية. لكن هذه الأحوال العادية تتخللها دورات متعاقبة من التغير تحدث كل ثلاث إلى خمس سنوات، وتؤدي إلى مرور الأرض بأنماط غير عادية من الحرارة والبرودة.  الولد الصغير  و البنت الصغيرة  هي الأسماء التي أطلقها الصيادون في أمريكا الجنوبية على هذه الدورات حين كانوا يلاحظون علامات وصولها إلى شواطئهم. أما اكتشافها العلمي فيعود إلى العالم البريطاني السير جيلبرت توماس واكر الذي لاحظها ودوَّن اكتشافه ونشره في العام 1923م. وقد حفظ العالم لها اسميها الأصليين، فباتت تعرف بـ  إل نينيو  وهي الدورة الحارة، و لا نينيا  وهي الدورة الباردة.

وبينما كان  إل نينيو  هو المسؤول الأول عن موجات الحر القاتل التي شهدها العالم في صيف 1998م، فإن خبراء المناخ يقولون إن دورة  لا نينيا  هي المسؤول الأساس عن البرودة الشديدة التي اجتاحت العالم في الشتاء الماضي، والتي من المتوقع أن تستمر خلال هذا الشتاء أيضاً.

حين تبدأ دورة  لا نينيا ، تزداد حركة الرياح على الجانب الشرقي من المحيط الهادئ، بحيث تتسبب في دفع مياه السطح الدافئة لتتحرك من الجزء الشرقي إلى الجزء الغربي منه. تتدفق المياه الدافئة إلى الغرب، بينما ترتفع المياه العميقة الباردة إلى السطح في الجانب الشرقي بدلاً من المياه الدافئة التي تمت إزاحتها. ونتيجة لذلك تنخفض درجة حرارة مياه المحيط الهادئ على طول سواحل أمريكا الجنوبية، بينما ترتفع درجة حرارتها على سواحل أستراليا والفلبين وإندونيسيا. هذا الاختلاف في نظام درجات الحرارة على جانبي المحيط، يحدث  فوضى  جوية على سواحله. فتنهمر مياه الأمطار بغزارة على الشرق الأقصى وأستراليا، بينما تعاني سواحل أمريكا اللاتينية من جو أكثر جفافاً من المعتاد.

وعلى الرغم من أنها ظاهرة جوية تحدث في خُمس مساحة الأرض فقط، إلا أن آثارها تمتد لتشمل أرجاء العالم كله. فحين تتحرك  لا نينيا  على سواحل المحيط الهادئ، فإن الأمر يكون كإلقاء حجر صغير في بركة ساكنة من الماء. إذ ان التغير في التوازن الطبيعي لدرجات الحرارة ونظام الضغط الجوي والرياح على المساحة الهائلة التي يشغلها المحيط، يطلق موجات بعيدة المدى من التغير تؤثر في توازن النظام الجوي للأرض ككل، وتشيع البرودة غير المعتادة في أنحاء واسعة من العالم. وقد سجلت التقارير المناخية أن دورة  لا نينيا  الحالية بدأت في الإعلان عن وجودها في بداية العام 2007م، ثم زادت حدتها مع بداية العام 2008م لتصبح الأشد منذ عقود. وقد فرضت سيطرتها على الشتاء الماضي الذي شهد انخفاضاً غير مسبوق في درجات الحرارة في مناطق كثيرة من العالم منها المنطقة العربية، التي شهدت هطول المطر الغزير، وانهمار الثلج على بلاد لم تعرفه من قبل.

يقول خبراء المناخ إننا إذا تأملنا ما تسجله الخرائط المناخية عن جو الأرض، فسنجد تذبذباً للأعلى أو للأسفل في مساحات ضيقة، وهذه هي التغيرات التي تحدث نتيجة لعوامل طبيعية تفرض تأثيرها على النظام المعقد للجو. لكن إذا عدنا خطوتين للوراء، ونظرنا للصورة الأكبر فسنجد أن درجات حرارة الأرض على المدى الطويل تتجه اتجاهاً واحداً.. للأعلى.

وإلى ما تقدَّم نضيف أن  الخضر  ومنذ زمن طويل، نبهوا إلى أن احترار الأرض يمكنه أن يؤدي إلى عصر جليدي. وضربوا على ذلك مثلاً، الأثر الذي يمكن أن يتركه اضطراب حال التيار البحري المعروف باسم تيار شمال الأطلسي. فهذا التيار المشكَّل من المياه الدافئة، هو صاحب الفضل في تدفئة الشواطئ الشرقية لأمريكا الشمالية والشواطئ الغربية لشمال أوروبا. ولكن ازدياد سخونة الأرض يمكنه أن يذيب ثلوج القطب الشمالي التي تتحوَّل إلى مياه باردة تصب عند منشأ هذا التيار فتخفض حرارته، وبالتالي قدرته على تدفئة المناطق التي اعتاد تدفئتها، لتكتب الغلبة عندها للرياح والعواصف الثلجية الناشئة في القطب الشمالي والتي تتجه جنوباً، إذ لن تصادف في طريقها الحرارة اللازمة لتلطيفها، فتتدنى الحرارة إلى مستويات غير مسبوقة في التاريخ المعروف، ويصل الثلج جنوباً إلى مناطق لم يصل إليها منذ آلاف السنين، أما المناطق الشمالية المأهولة اليوم، فتكون قد دفنت تماماً تحت الجليد.

مجلة القافلة العدد الأول المجلد 58 – يناير / فبراير 2009

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

Post Top Ad

الصفحات