هل سبق لك أن غادرت المنزل ثم شعرت فجأة بعدم الارتياح، وتوقفت لتتساءل: "هل أغلقت باب البيت فعلًا؟"، "هل أطفأت فرن الغاز؟"، لتجد نفسك تعود أدراجك للتحقق… فقط لتكتشف أنك فعلت ما كنت خائفًا من نسيانه؟ لا تقلق، أنت لست وحدك.
هذا السلوك المتكرر، الذي يبدو "غير منطقي" للوهلة الأولى، هو في الحقيقة ظاهرة نفسية منتشرة للغاية.
وهي تجمع بين القلق، والروتين، والذاكرة قصيرة الأمد، وحتى الشعور بالمسؤولية.
فما السبب الحقيقي وراء هذا السلوك؟
ولماذا لا نثق في ذاكرتنا أحيانًا رغم أن الدلائل واضحة؟
1- الذاكرة قصيرة الأمد والأنشطة الروتينية: حين يتآمر العقل ضد نفسه
المهام التي نقوم بها بشكل يومي – مثل إغلاق الباب أو إطفاء الغاز – تصبح بعد فترة سلوكيات تلقائية (Automatic behaviors)، أي أنها تتم بدون انتباه واعٍ.
والنتيجة؟ لا يتم تخزين هذه الأفعال في الذاكرة طويلة الأمد، فنشعر لاحقًا كما لو أننا لم نفعلها إطلاقًا
!
هذه الظاهرة تُعرف في علم النفس باسم "العمى التلقائي" (Action Slips)
حيث يقوم دماغك بإغلاق الباب فعليًا، لكنه لا "يُسجل اللحظة" لأنه كان مشغولًا بشيء آخر – ربما تفكيرك في رسالة بريد إلكتروني يجب إرسالها أو الاجتماع الذي تأخرت عنه او الوصول في الوقت المناسب لعملك.
وبالتالي، فإن غياب التوثيق العقلي للعمل يجعلنا نشك لاحقًا ونعود للتحقق، حتى لو كنا قد أغلقنا الباب بالفعل قبل دقائق.
2- القلق والتفكير المفرط: عندما تتحول المسؤولية إلى عبء
إذا كنت من الأشخاص الذين يتحملون مسؤوليات عديدة، أو من أصحاب الشخصية القلقة أو الحذرة، فمن المرجّح أن تكون أكثر عرضة لهذا السلوك.
القلق الطبيعي يجعلك أكثر حرصًا، لكن القلق الزائد يدخلك في دوامة من الشك والسيناريوهات الكارثية.
تفكر: "ماذا لو نسيت إغلاق الغاز؟ ماذا لو نشب حريق؟ ماذا لو تسرّب الغاز وتسمم أحدهم؟ "
هذا النوع من التفكير يُعرف بـ "Catastrophizing" أو المبالغة في توقع الأسوأ.
العقل القلق لا يقبل الاحتمال بنسبة 99٪، بل يريد تأكيدًا بنسبة 100٪… وهنا يأتي قرار العودة.
3- هوس السيطرة: العقل لا يتحمل المجهول
العقل البشري يميل إلى كره المجهول، خاصة في الأمور التي يشعر فيها بعدم السيطرة. والبيت – كمكان شخصي مليء بالذكريات والمقتنيات – هو رمز لهذه السيطرة.
عندما تغادر البيت، تترك كل شيء خلفك. ولا يعود لديك وسيلة للتدخل السريع إذا حدث شيء.
ولذلك، تتشبث بأبسط الأمور التي تستطيع التأكد منها: "هل أغلقت الباب جيدًا؟ هل قمت بما عليّ؟"
إنه بحث عن الشعور بالأمان، حتى لو كان على حساب الراحة النفسية المؤقتة.
4- الشخصية الوسواسية (OCPD) والوسواس القهري (OCD): الحدود الدقيقة
من المهم أن نفرق بين السلوك الطبيعي الشائع وبين الحالة المرضية. فالكثير من الناس يعودون أحيانًا للتأكد من شيء ما، وهذا طبيعي.
لكن إذا تحوّل الأمر إلى طقس يومي متكرر لا يمكن تجاوزه، ويُعطل الحياة، فقد نكون بصدد اضطراب الوسواس القهري (Obsessive Compulsive Disorder).
في هذه الحالة، يشعر الشخص بقلق شديد إذا لم يُكرّر الفعل مرات عديدة، وقد يضطر للعودة عشرات المرات.
الوسواس القهري ليس مجرد "شكوك عادية"، بل اضطراب يحتاج إلى تشخيص وعلاج.
5- التكنولوجيا والضغوط اليومية: الذاكرة المُرهقة
في عصر السرعة، نحن محاطون برسائل، ومكالمات، ومهام متداخلة، وإشعارات لا تتوقف تصلنا من هواتفنا المحمولة… والنتيجة؟ تشتيت دائم، وذاكرة تعمل تحت ضغط، مما يُضعف قدرتنا على تذكّر تفاصيل صغيرة مثل قفل الباب.
أي أنك قد تكون قد أغلقت الباب بالفعل، لكن دماغك كان منهمكًا في قراءة إشعار على الهاتف أو الرد على رسالة صوتية. وغياب الانتباه لحظة الفعل يجعل ذاكرتك تُضيّع تلك "المعلومة الصغيرة".
الحلول: كيف نُعيد الثقة لذاكرتنا؟
لحسن الحظ، توجد بعض الاستراتيجيات البسيطة التي تساعد في تقليل هذا السلوك المزعج:
الانتباه أثناء الفعل: عندما تغلق الباب أو تطفئ الغاز، قل لنفسك بصوت مسموع أو داخلي: "أغلقت الباب الآن". هذا يُرسّخ الفعل في الذاكرة.
استخدم إشارات بصرية: ضع ملصقًا على الباب الداخلي مثل "هل أغلقت كل شيء؟"؛ مجرد رؤيته سيذكّرك ويقلل التردد.
روتين تأكيدي نهائي: خصص دقيقة قبل الخروج لتفقد الباب والغاز مرة واحدة فقط. ولا تسمح لنفسك بإعادة الفحص بعد مغادرة المنزل.
استخدام التكنولوجيا: بعض الأقفال الذكية وأجهزة الغاز الحديثة تُرسل تنبيهات للهاتف في حال تم النسيان، ما يُطمئن العقل القلِق.
أنت لست وحدك… عقلك يحاول حمايتك
العودة للتحقق من الباب أو الغاز ليست سلوكًا سخيفًا، بل انعكاس طبيعي لمزيج من القلق، والروتين، وانشغال الذهن
. إنه دلالة على أننا نخشى الخطأ ونرغب في حماية أنفسنا وأحبابنا.
لكن في الوقت نفسه، من المهم ألا نسمح لهذا القلق بأن يُقيدنا. بإمكاننا تدريب عقولنا على الثقة، والانتباه، وتطوير عادات بسيطة تبعث الطمأنينة دون أن نخضع لدوامة الشك.
في النهاية، كلنا نريد بابًا مغلقًا بإحكام… وعقلًا مرتاحًا أكثر.
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه