تُعد بيئة العمل الصناعية من أكثر البيئات التي تتطلب وعياً عالياً بالسلامة والانتباه، خاصة في المصانع والشركات التي تستخدم معدات ثقيلة أو مواد كيميائية خطرة.
وقد أثبتت الدراسات أن العامل غير المدرب معرض بنسبة أكبر للحوادث والإصابات الجسدية نتيجة لجهله بطرق التشغيل الآمن أو عدم إدراكه للمخاطر المحتملة.
ويؤدي التدريب الجيد والدائم إلى تقليل هذه الحوادث بشكل ملحوظ، مما يعزز من كفاءة العامل وسلامته على حد سواء.
لكن المفارقة المثيرة للقلق هي أن بعض العمال، وبعد سنوات طويلة من الخبرة، يصبحون أكثر عرضة للأخطاء.
فبعد خمسة عشر عامًا أو أكثر من العمل في نفس المجال، قد تتسلل إلى النفس البشرية مشاعر الثقة الزائدة، والإهمال، واللامبالاة، مما يؤدي إلى نتائج كارثية قد لا تقل خطورة عن تلك التي تصدر عن العامل المبتدئ.
من التدريب إلى الإتقان: رحلة السلامة في بداياتها
عندما يُدرّب العامل تدريبًا جيدًا، فإنه لا يتعلم فقط المهارات التقنية، بل أيضًا يتعلم قواعد السلامة وطرق التعامل مع الطوارئ. ويؤدي هذا إلى خلق بيئة عمل أكثر أمانًا، تقل فيها نسبة الإصابات الناتجة عن الجهل أو الاستخدام الخاطئ للأدوات والمعدات.
ويشعر العامل المتدرب بثقة حذرة، حيث يدرك حدوده وحدود ما يتعامل معه من معدات. ويحرص في خطواته، ويتبع التعليمات بدقة لأنه يعلم أنه ما زال في مرحلة اكتساب المهارة. وهذا ما يجعل الأداء في هذه المرحلة أكثر انضباطًا وحرصًا.
الخبرة المفرطة: عندما تتحول الثقة إلى تهديد
بعد سنوات طويلة من ممارسة العمل ذاته، يشعر العامل غالبًا بالاطمئنان المفرط إلى معرفته وقدراته. وهنا تبدأ مرحلة الخطر الخفي. فالعامل الذي تعامل مع نفس المعدات والظروف لعقود، قد يتوقف عن الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة التي اعتاد أن يلاحظها.
حيث تصبح خطواته آلية، وتصرفاته متوقعة، لكنه في الوقت ذاته ينسى أن بيئة العمل لا تخلو من المفاجآت، وأن الحذر يجب أن يلازم الإنسان مهما بلغت خبرته.
وفي حالات عديدة، تكون الأخطاء التي يرتكبها العامل الخبير أكثر خطورة من تلك التي يرتكبها العامل الجديد.
فقد يؤدي تجاهل بسيط لإجراء أمني إلى حدوث كارثة، خاصة عندما يكون الشخص المخطئ مسؤولًا عن فريق كامل أو عن تشغيل آلة كبيرة.
الأسباب النفسية وراء الإهمال بعد الخبرة
تعود أسباب هذه الظاهرة إلى عدة عوامل نفسية وسلوكية، منها:
الثقة الزائدة: بعد سنوات من العمل دون حوادث تُذكر، قد يظن العامل أنه أصبح محصنًا ضد الخطأ، فيتخلى عن بعض الإجراءات الوقائية.
الروتين والملل: التكرار اليومي لنفس المهام قد يؤدي إلى شعور بالملل، وبالتالي يتعامل العامل مع العمل بلا شغف أو تركيز.
الإرهاق الذهني والبدني: العمل الطويل لسنوات دون تغيير أو تطوير في المهام قد يسبب تعبًا ذهنيًا مزمنًا، يضعف التركيز ويزيد من احتمالية الخطأ.
التقليل من أهمية التحديثات والتدريبات الجديدة: قد يرفض بعض العاملين ذوي الخبرة المشاركة في دورات تدريبية حديثة، ظنًا أنهم يعرفون كل شيء بالفعل، مما يؤدي إلى فجوة معرفية مع تطورات التكنولوجيا أو تغييرات نظام العمل.
كيف يمكن معالجة هذه الظاهرة؟
لمواجهة هذه المشكلة، يجب على الشركات والمؤسسات أن تتعامل مع التدريب المستمر على أنه جزء لا يتجزأ من ثقافة العمل، لا مجرد مرحلة انتقالية للعامل الجديد. ومن بين الوسائل الفعالة:
التدريب الدوري الإلزامي: ينبغي فرض تدريبات دورية لجميع العاملين، بغض النظر عن سنوات خبرتهم، وذلك لتحديث معلوماتهم وإعادة تنشيط وعيهم بالمخاطر.
برامج التوعية النفسية: من المهم إدراج ورش عمل تركز على التوعية بمخاطر الإهمال الناتج عن الثقة الزائدة.
التدوير الوظيفي: تغيير المهام بين الحين والآخر قد يقلل من الروتين ويزيد من انتباه العامل.
التقدير مقابل الالتزام: مكافأة العاملين الذين يلتزمون بإجراءات السلامة بشكل دائم، لتشجيع السلوك الإيجابي وتحفيز الآخرين.
المراقبة والمتابعة: توفير أنظمة رقابة دورية على الأداء، مع تقديم تغذية راجعة بناءة.
بين العلم والعادة
يبدأ العامل رحلته المهنية بالتدريب، ويتقدم بالخبرة، لكن التحدي الأكبر هو الحفاظ على وعيه ويقظته رغم مرور السنوات.
إن تحول الثقة بالنفس إلى لا مبالاة قد يُفقد الإنسان ما بناه بجهده وعمله الطويل. لذا، تبقى اليقظة والانتباه لقواعد السلامة ضرورية مهما بلغت درجة الخبرة، لأن الأخطاء لا تميز بين مبتدئ ومتمرّس.
إن الاستثمار الحقيقي في الإنسان لا يتوقف عند تعليمه أول مرة، بل يستمر ما دام يعمل. فالأمان لا يُكتسب مرة واحدة، بل يُمارس يوميًا.
أمجد قاسم
X@amjad
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه