هل لاحظت يومًا أنك حين تدخل قاعة دراسية أو صالة انتظار تميل تلقائيًا للجلوس في نفس المقعد الذي جلست فيه سابقًا؟
أو أن بعض زملائك في الصف الدراسي، رغم أن لا أحد أجبرهم، يختارون دائمًا نفس الكرسي تقريبًا؟
قد يبدو الأمر سلوكًا عابرًا لا يستحق التفكير، لكنه في الحقيقة يكشف عن واحدة من أكثر الظواهر النفسية subtile والمنتشرة التعلق المكاني (Place Attachment)
ما هو التعلق المكاني؟
في علم النفس البيئي (Environmental Psychology)، يُعرف التعلق المكاني بأنه "العلاقة العاطفية أو المعنوية التي يكوّنها الفرد مع مكان معين، نتيجة تكرار التواجد فيه، أو بسبب تجارب شخصية مرتبطة به".
بمعنى آخر، نحن لا نتعامل مع الأماكن كمجرد مواقع جغرافية أو فراغات مادية، بل نُضفي عليها طابعًا شخصيًا، حتى وإن كان ذلك المقعد مجرد كرسي خشبي متهالك في نهاية الصف.
التكرار يولّد الألفة
من أبرز تفسيرات هذا السلوك ظاهرة "تأثير الألفة" (Mere Exposure Effect)، وهي مبدأ نفسي يشير إلى أن الإنسان يميل إلى تفضيل الأشياء التي اعتاد رؤيتها أو التعامل معها بشكل متكرر، حتى وإن لم يكن لديه سبب منطقي لذلك.
عندما تجلس في نفس المقعد مرة تلو الأخرى، فإن دماغك يبدأ في ربط هذا المكان بالشعور بالراحة أو الاستقرار.
ومع الوقت، يتحول المقعد إلى "منطقة نفسية آمنة" توفر لك نوعًا من التوازن وسط بيئة قد تكون متغيرة أو غير مألوفة.
السيطرة على البيئة وتخفيف القلق
في المواقف التي ينطوي فيها الحضور على درجة من التوتر — مثل قاعة امتحان، محاضرة، أو موعد طبي — يمنحك اختيار نفس المقعد شعورًا بالتحكم والاتساق.
هذا السلوك يُعتبر
أداة نفسية غير واعية لتقليل القلق المكاني (Spatial Anxiety)، وهو القلق الناتج عن التواجد في أماكن
جديدة أو غير مستقرة.
من خلال تثبيت عامل "المقعد"، تشعر وكأنك أزلت عنصرًا واحدًا على الأقل من معادلة اللايقين، مما يمنحك بعض الاطمئنان.
المقعد كامتداد للهوية
بعض
النظريات الحديثة ترى أن المكان الذي نختاره مرارًا يمثل نوعًا من "الامتداد النفسي
للذات" (Extended Self)
بمعنى أن المقعد لا يصبح فقط مكانًا نرتاح فيه، بل أيضًا جزءًا من هويتنا داخل هذا الفضاء.
في الصف الدراسي مثلًا، المقعد لا يدل فقط على مكان جلوسك، بل يعكس موقفك من المادة، علاقتك بالمدرس، وانتماءك إلى مجموعة معينة.
من يجلس في المقدمة قد يُنظر إليه على أنه مجتهد، بينما يفضل البعض المقاعد الخلفية للشعور بمزيد من الحرية أو الحماية.
ومن خلال هذا الاختيار المتكرر، تتشكل رموز صغيرة لهويتك في هذا الفضاء.
العوامل الاجتماعية: من الانتماء إلى التنافس
الجلوس في نفس المقعد له أيضًا دلالات اجتماعية. فالمكان لا يُعرّف فقط ذاتيًا، بل عبر علاقاتنا بالآخرين.
- الانتماء: اختيار نفس المقعد مرارًا يساعدك على بناء علاقات ثابتة، فزملاؤك من حولك هم أنفسهم، مما يخلق شعورًا بالانتماء والاستمرارية.
- الخصوصية: حين يشعر الفرد أن هذا المقعد "له"، يبدأ في حمايته لا شعوريًا من الآخرين، حتى وإن لم يكن مخصصًا رسميًا له.
- التنافس غير المباشر: أحيانًا، حين يجلس شخص آخر في "مقعدك المعتاد"، قد تشعر بالانزعاج، وكأنك فقدت جزءًا من خصوصيتك، مما يدل على مدى تعلّقك بهذا الحيز الصغير من الفضاء.
الأماكن كحافظات للذاكرة
من
المثير أن بعض الدراسات في علم الأعصاب تشير إلى أن الإنسان لا يتذكر فقط الأشخاص
أو الأحداث، بل أيضًا أماكن الحدث. وهذه القدرة تسمى بـ "الذاكرة السياقية"
(Contextual Memory)
لذلك، عندما تجلس في نفس المقعد مرارًا، تصبح الذاكرة المتعلقة بالمكان أداة لاسترجاع الأفكار، المشاعر، وحتى المحتوى التعليمي مما يفسر لماذا بعض الطلاب يفضلون مراجعة الدروس من "مقعدهم الخاص".
المرونة مقابل الجمود
لكن، هل هذا السلوك دائمًا صحي؟
التمسك الشديد بالمكان الواحد قد يشير أحيانًا إلى قلة المرونة النفسية أو الخوف من التغيير، وهي سمات ينبغي الانتباه إليها.
فبينما يوفر المكان المألوف نوعًا من الطمأنينة، إلا أن التعلّق المفرط قد يحدّ من قدرتنا على التكيف مع الظروف الجديدة.
من المفيد أن نمارس أحيانًا "كسر النمط"، كأن نجلس في مكان مختلف عن المعتاد، لمجرد تجربة شعور جديد، أو لتحدي رغبتنا الدائمة في الثبات.
المكان أوسع من مجرد موقع
الجلوس
في نفس المقعد مرارًا ليس مجرد عادة عابرة، بل هو نتاج تفاعل معقد بين النفس
والمكان.
إنه تعبير عن حاجتنا للاستقرار، الألفة، والخصوصية في عالم دائم التغير.
وفي حين يبدو المقعد مجرد قطعة أثاث، إلا أنه بالنسبة لنا، هو جزء من الراحة النفسية، من الهوية، ومن الذاكرة.
ففي كل مرة تختار فيها مقعدك المعتاد، تذكّر أن ما تفعله ليس بلا سبب إنه تعبير صغير عن عمق علاقتك بالعالم من حولك.
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه