تخيّل عالمًا يولد فيه الإنسان بـ12 إصبعًا بدلاً من 10. قد يبدو هذا مجرد سيناريو خيالي، لكن خلفه تساؤل منطقي ومثير للاهتمام: هل كنا سنعتمد نظامًا عدديًا مختلفًا؟ هل كانت الرياضيات كما نعرفها اليوم ستبدو بشكل آخر؟
من الأصابع إلى الأرقام: لماذا نعتمد النظام العشري؟
يرتبط النظام العددي العشري (Base-10) ارتباطًا وثيقًا بعشرة أصابع في أيدينا. فمنذ فجر الحضارة، استخدم الإنسان أصابعه كوسيلة طبيعية للعد، مما جعل النظام العشري الخيار الأوضح والأبسط في تطور اللغة الرياضية .
لكن السؤال هو: هل كانت الأمور ستختلف لو امتلكنا 12 إصبعًا؟
منطقيًا، نعم. ربما كنا سنستخدم نظام العد الإثني عشري (Base-12)، لأننا سنعدّ على عدد مختلف من الأصابع.
بل إن هذا ما تشير إليه بعض النماذج الثقافية حول العالم: ليس النظام العشري هو الخيار الوحيد الذي استخدمته البشرية.
أنظمة عددية بديلة: ما قبل العشرة وما بعدها
رغم امتلاك الإنسان لعشرة أصابع، لم تلتزم جميع الثقافات عبر التاريخ بالنظام العشري:
- البابليون استخدموا نظامًا ستينيًا (Base-60)، أي يقوم على العد حتى 60.
- حضارة المايا طورت نظامًا عشريًا-عشرينيًا، يجمع بين العد حتى 10 والعد حتى 20.
- بعض المجتمعات الإفريقية القديمة استخدمت أنظمة مبنية على أساس 12 و20.
والأكثر دهشة، أن بقايا هذه الأنظمة لا تزال حاضرة في حياتنا اليومية :
- هناك 60 ثانية في الدقيقة، و60 دقيقة في الساعة.
- اليوم مقسوم إلى 12 ساعة صباحًا و12 ساعة مساءً.
كل ذلك يوضح أن النظام العشري ليس بالضرورة "الطبيعي" أو "الوحيد"، بل هو نتاج تكيف بيولوجي وثقافي.
لماذا يُفضّل بعض الرياضيين Base-12؟
الرقم 12 يمتلك خواص رياضية جذابة؛ فهو يُقسم على 2، 3، 4، و6، مما يمنحه مرونة في الاستخدام اليومي والكسور أكثر مما يوفره الرقم 10، الذي لا يُقسم إلا على 2 و5. لذلك، يعتقد بعض المفكرين والرياضيين أن النظام الإثني عشري قد يكون عمليًا أكثر من النظام العشري في بعض التطبيقات.
لكن، هل هذا يعني أن الرياضيات ستتغير؟
الرياضيات لا تتعلق بالأرقام… بل بالأفكار
رغم ما قد يبدو من اختلاف شكلي، الرياضيات ليست مرتبطة بالنظام العددي نفسه. هي مجموعة من المفاهيم والعلاقات والمنطق المجرد، مستقلة عن اللغة أو الترميز.
إذا استُبدل النظام العشري بالإثني عشري، فالأرقام ستُكتب وتُنطق بشكل مختلف، لكن:
- المجموعات ستظل مجموعات.
- المعادلات ستظل صحيحة.
- النظريات ستظل قابلة للإثبات أو الدحض.
تمامًا كما أن قول "2 + 2 = 4" لا يختلف عن "two plus two equals four"، فالمحتوى واحد، والتعبير هو المختلف.
الأنظمة العددية هي مجرد "لغة كتابة" للأفكار الرياضية. تغييرها لا يمس الجوهر.
وماذا عن العلوم؟ هل كانت ستتأثر؟
العلوم الطبيعية، من فيزياء إلى كيمياء وهندسة، تعتمد على القيم الكمية الدقيقة. نعم، تغيير النظام العددي يعني أن الثوابت الفيزيائية (مثل سرعة الضوء أو ثابت بلانك) ستُكتب بصيغ مختلفة، لكنها ستبقى تحمل نفس القيمة الفيزيائية.
التجارب، العلاقات بين الكميات، القوانين العلمية — كلها ستبقى كما هي، لأن هذه المبادئ ليست مرتبطة بشكل كتابة الأرقام، بل بطبيعة الواقع الذي تصفه.
الخلاصة: الرياضيات تسكن في العقول، لا في الأصابع
قد تكون الأصابع هي البوابة الأولى للعدّ، لكن الرياضيات لا تسكن في اليد بل في الدماغ. لو امتلكنا 12 إصبعًا، لا شك أن رموز الأرقام كانت ستختلف، وربما كنا سنستخدم أسماءً وأشكالًا جديدة.
لكننا سنظل نكتشف فيثاغورس، ونرسم مثلثاته. سنُدهش بنيوتن وهو يصف قوانين الحركة. وربما سنصل إلى نسبية أينشتاين بلغة مختلفة، لكن بفهم مشابه.
في النهاية، الأنظمة العددية هي أدوات… أما الرياضيات فهي الفكرة .
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه