ما الذي يجعل الإنسان معجزة؟
في زحام هذا
العالم، تمضي القصص العظيمة في صمت، تمامًا كما كانت تمضي حياة "هيلين
كيلر" لولا أن صنعت لنفسها صوتًا سمعه العالم أجمع، رغم أنها لم تسمع هي
شيئًا قط.
ولدت في عالم النور، ثم اجتاحه الظلام والصمت وهي طفلة لم تبلغ عامها الثاني. ومع ذلك، كتبت التاريخ بقلم الإرادة، وحفرت اسمها في سجل الخالدين.
فما السر؟ وكيف تحوّلت من طفلة صماء عمياء إلى واحدة من أكثر النساء تأثيرًا في القرن العشرين؟
الضربة الأولى: حين انطفأ النور وخفت الصوت
وُلدت هيلين كيلر
في الولايات المتحدة عام 1880، وكانت طفلة طبيعية تنعم بنعمة السمع والبصر، إلى أن
داهمها مرض التهاب السحايا وهي في سن 19 شهرًا.
وبعد أن تجاوزت نوبة المرض، اكتشف أهلها أنها فقدت السمع والبصر تمامًا. لحظة كهذه قد تعني للبعض نهاية الحياة، لكن لأسرة هيلين، كانت بداية رحلة صعبة، بدأت بالتيه والمعاناة وانتهت بالمعجزة.
الطفلة الصغيرة لم تعد قادرة على التواصل مع العالم من حولها، حتى المشاعر البسيطة لم تكن تجد طريقها إلى الخارج. كانت تغضب وتصرخ وتعاني من العزلة، إلى أن دخلت "آن سوليفان" حياتها.
الولادة الثانية: عندما أمسكت آن بيد هيلين
المعلمة "آن
سوليفان" كانت هي الأخرى قد عانت من ضعف البصر، لكنها لم تدع معاناتها تقف في
وجه أحلامها. حين قُدمت لهيلين كمعلمة، بدأت باستخدام طريقة غير مألوفة في ذلك
الحين: الكتابة باليد على الكف.
في البداية، لم تفهم هيلين، لكن نقطة التحول جاءت حين سكبت آن الماء على يد هيلين وكتبت لها كلمة "ماء" على راحة يدها. لحظتها، أدركت هيلين أن لكل شيء اسمًا، وأن ما يُرسم على يدها ليس عبثًا، بل هو مفتاح لفهم العالم.
كانت تلك اللحظة بمثابة ولادة جديدة لهيلين، لحظة انتقلت فيها من عالم مظلم وصامت إلى عالم ممتلئ بالمعاني والكلمات والمشاعر.
التعليم طريق الحرية
تعلمت هيلين
القراءة والكتابة بطريقة "برايل"، ثم التحقت بمعهد كامبريدج المرموق،
وهو أمر كان يُعد مستحيلًا لطفلة عمياء وصماء في ذلك الزمن.
حصلت على بكالوريوس في العلوم والفلسفة، ثم نالت درجة الدكتوراه لاحقًا. لم تكتفِ بالدراسة، بل انطلقت تكتب وتُعبّر وتنشر.
كتبت هيلين 18 كتابًا، تُرجمت أعمالها إلى أكثر من 50 لغة. ومن بين أشهر مؤلفاتها "العالم الذي أعيش فيه"، حيث تروي فيه تجربتها الذاتية بعمق إنساني ووعي فلسفي يجعل القارئ يعيد النظر في مفاهيم كثيرة.
صوت عالمي يدافع عن الإنسانية
هيلين لم تكن فقط
كاتبة أو متحدثة، بل كانت ناشطة فكرية وإنسانية من الطراز الأول. جابت العالم تلقي
المحاضرات حول السلام، وتدافع عن حقوق ذوي الإعاقة والنساء والفقراء. لم تكن تحاضر
فحسب، بل كانت تناضل وتضغط وتكتب وتؤثر.
لم يكن هدفها فقط أن تقول للعالم "أنا موجودة"، بل أرادت أن تقول: "أنا إنسانة، ولكل إنسان الحق أن يعيش بكرامة، مهما كانت إعاقته".
عملت مع العديد من الجمعيات والمؤسسات، وأسهمت في تغيير السياسات المتعلقة بذوي الإعاقة في عدة دول. وبسبب نضالها وإبداعها وتفردها، تم تكريمها بجائزة نوبل في الأدب .
عِبَر لا تموت: هيلين ليست استثناءً، بل إلهامًا
قصة هيلين كيلر
ليست مجرد ملحمة إنسانية، بل هي دعوة صامتة إلى كل من يشعر أن العقبات أكبر من
أحلامه. إنها تضع أمامنا حقيقة لا لبس فيها: أن الإنسان حين يمتلك الإرادة، لا
تحدّه الظروف مهما قست، ولا تعيقه الإعاقات مهما تعاظمت.
ما الذي يجعل هيلين "معجزة بشرية"؟
ليس فقط قدرتها
على التعلم أو على الكتابة أو على السفر والخطابة رغم إعاقتها، بل لأنها فتحت
الباب أمام الملايين ليؤمنوا بأنهم يستطيعون. لأنها برهنت للعالم أن العجز الحقيقي
ليس في الجسد، بل في الإرادة الغائبة.
خاتمة تأملية: دعوة لفتح النوافذ المغلقة في أرواحنا
في عالم سريع
الإيقاع، مليء بالتشاؤم، تأتي قصة هيلين كيلر لتفتح نافذة نحو الأمل، وتدعونا لأن
نرى النور رغم العتمة.
لعل أكبر إعاقاتنا ليست في فقدان الحواس، بل في الاستسلام. لعل أعظم ما نملكه هو هذا الكنز غير المرئي: الإرادة.
هيلين كيلر لم تُبصر العالم بعينيها، لكنها أبصرته ببصيرتها. لم تسمع أصوات البشر، لكنها أنطقت ضمائرهم. فهل نحتاج أكثر من ذلك لنعيد النظر في معنى الحياة، وفي معنى النجاح الحقيقي؟
أمجد قاسم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه