مدونة ثقافية تعنى بالإبداع والابتكار والتنمية البشرية

اخر الأخبار

Post Top Ad

الأربعاء، 9 يوليو 2025

لماذا نضغط بقوة على أزرار الريموت كنترول عند ضعف البطارية؟

 


سلوك يومي يمر دون تفكير

في لحظة بسيطة وعادية، عندما تبدأ بطارية جهاز التحكم (الريموت كنترول) بالضعف، نجد أنفسنا نضغط بقوة على الأزرار. رغم أننا نعلم أن قوة الضغط لن تعيد شحن البطارية أو تحل المشكلة التقنية، إلا أن معظمنا يستمر في هذا السلوك. 

 

قد يبدو الأمر تافهًا، لكن علماء النفس يعتبرونه مثالًا رائعًا على الطريقة التي يتفاعل بها العقل البشري مع التوتر، الإحباط، والعجز.

فماذا يقول هذا السلوك عنّا؟ ولماذا يتكرر في مواقف مشابهة؟ دعونا نستعرض تحليلًا نفسيًا معمقًا لهذه الظاهرة.

العجز المكتسب: حين نلجأ للمستحيل بدلًا من القبول

عندما تضعف البطارية، يدرك الدماغ - ولو بشكل غير واعٍ - أن الجهاز قد لا يعمل كما يجب. لكن بدلًا من التوقف والتفكير بطريقة عقلانية (كتبديل البطاريات مثلًا)، يقوم الإنسان برد فعل شبه أوتوماتيكي: الضغط بقوة.


هذا السلوك يرتبط بما يعرف في علم النفس بـ"العجز المكتسب" (Learned Helplessness) ، وهو مفهوم وضعه العالِم مارتن سليغمان، ويصف حالة يتوقف فيها الإنسان عن المحاولة العقلانية لحل المشكلات لأنه شعر سابقًا بعدم الجدوى.

في مثالنا، يشعر الشخص أن الأمور خرجت عن سيطرته، فيلجأ إلى حل بديل غير منطقي لكنه سهل وفوري: الضغط أكثر!

وهم السيطرة: عندما نحتاج للشعور أننا نتحكم

الضغط بقوة على الأزرار رغم معرفتنا بعدم جدواه هو محاولة غير واعية لاستعادة الشعور بالتحكم. 

علم النفس يطلق على هذه الظاهرة اسم "وهم السيطرة" (Illusion of Control)، وهي تحدث عندما يتصرف الأفراد كما لو أن لديهم تأثيرًا على نتائج لا يمكنهم التحكم بها في الحقيقة.

في حالة الريموت، الضغط القوي يعطينا انطباعًا لحظيًا أننا "فعلنا شيئًا" بدلاً من الاستسلام. هو سلوك يخفف من القلق والارتباك، حتى لو لم يكن فعّالًا. الإنسان بطبعه لا يحب الشعور بالعجز، فيبتكر عقليًا طرقًا "مزيفة" للشعور بالتمكّن، حتى وإن لم تكن منطقية.

بين التكرار والعادة: كيف يتشكل السلوك اللاواعي

نحن لا نتعلم هذا السلوك من الكتب، بل من التجربة والخطأ والتقليد. نراه في الطفولة عندما نحاول فتح باب لا يفتح فنضغط بقوة، أو عندما نطرق على الحاسوب إذا لم يستجب. شيئًا فشيئًا، يتحول هذا السلوك إلى عادة آلية تحدث بدون تفكير.

العقل البشري يحب الأنماط ويعيد إنتاجها في مواقف متشابهة. فحتى لو كنا نعلم أن البطارية ضعيفة، فإن الدماغ يستدعي "نمطًا قديمًا" مألوفًا: الضغط بقوة = محاولة جديدة.

هذه الاستجابة المشروطة ترتبط أحيانًا بما نسميه في علم النفس "الذاكرة الإجرائية"، وهي الذاكرة الخاصة بالسلوكيات المتكررة.

تفريغ المشاعر: الضغط كوسيلة للتنفيس

هناك جانب عاطفي أيضًا لهذا السلوك. حين لا يعمل الريموت، يشعر الإنسان بالإحباط أو الانزعاج – ربما لأن الفيلم سيتأخر، أو لأن القناة غير المرغوبة لا تزال على الشاشة. وهنا يظهر الضغط القوي كنوع من التنفيس أو تفريغ الغضب.

مثلما يضرب البعض على الطاولة عند الغضب أو يشد على يديه، فإن الضغط القوي على الأزرار يكون تعبيرًا جسديًا عن مشاعر داخلية. حتى إن كان الفعل لا يغير شيئًا، فهو يمنح الجسد وسيلة للردّ على المشاعر السلبية التي لا يمكن التعبير عنها بالكلام أو التفكير.

الإدراك المؤجل: نحن نعرف… ولكن متأخرًا

من المثير أن أغلب الناس، بعد لحظة من الفعل، يدركون أن ما قاموا به غير منطقي. ربما يضحكون، أو يتمتمون: "كأن الضغط بقوة سيشحن البطارية!" هذا ما يُعرف في علم النفس بـ"الإدراك المؤجل"  حيث نراجع سلوكنا بعد تنفيذه ونبدأ في تحليله بوعي.

وهذا الإدراك المتأخر ليس دليلًا على السذاجة، بل على مدى تعقيد السلوك البشري؛ فنحن مزيج من العقل والشعور، العادة والمنطق، الفعل والندم. وما يهم هو أن نتعلم كيف نلاحظ هذه اللحظات ونفهمها دون قسوة على أنفسنا.

من "الريموت" إلى الحياة: نماذج سلوكنا في مواقف أكبر

رغم أن المثال يدور حول "ريموت كنترول"، فإن الظاهرة أوسع بكثير. نضغط بقوة على الأزرار، مثلما نصرخ أحيانًا في وجه من لا يسمع، أو نكرر طلبًا في البريد الإلكتروني رغم معرفتنا أن الجواب لن يتغير.

السلوك الإنساني مليء بهذه اللحظات الصغيرة التي تعكس ما هو أعمق: حاجتنا للفهم، للسيطرة، للتعبير، أو حتى للمقاومة. والتعرف على هذه الأنماط يمكن أن يساعدنا على التعامل مع مواقف الحياة بوعي أكبر وتقبل أوسع لأنفسنا ولغيرنا.

لحظة يومية تكشف عن عمق النفس

في النهاية، ليس الضغط القوي على أزرار الريموت مجرد حركة عابرة، بل مرآة تعكس طريقة تفاعلنا مع العالم من حولنا. من العجز إلى وهم السيطرة، ومن العادة إلى الانفعال، كل ضغطة تحمل قصة داخلية تستحق التأمل.

لذلك، في المرة القادمة التي تجد فيها نفسك تضغط بعصبية على الريموت، ابتسم… فقد اكتشفت درسًا جديدًا في علم النفس دون أن تقرأ سطرًا واحدًا من كتاب !

 

أمجد قاسم

X@amjad

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

Post Top Ad

الصفحات