في عالمنا اليوم، لم تعد توربينات الرياح مجرد هياكل ضخمة تدور شفراتها في السهول أو في عرض البحر، بل أصبحت رمزًا لأملنا في مستقبل مستدام. إنها جزء من نسيج حياتنا، تولد الطاقة النظيفة وتضيء المدن، وتحمي كوكبنا من الانبعاثات.
ولكن هل تساءلت يومًا عن العقل الذي كان وراء هذه الفكرة الرائدة؟ عن الرجل الذي نظر إلى هبوب الرياح، ورأى فيها أكثر من مجرد ظاهرة جوية؟
هذه القصة لا تبدأ في مختبر حديث، ولا في وادي السيليكون، بل في حديقة منزل صيفي متواضع في ريف اسكتلندا، وعام 1887. إنها قصة الأستاذ جيمس بلايث، الذي لم يكن مجرد مخترع، بل كان أول إنسان يحوّل الرياح إلى طاقة كهربائية لإضاءة منزله.
الأستاذ الذي رأى في الرياح سحراً
خلافًا للقصص التي تُروى عن الكفاح الأكاديمي، لم يكن جيمس بلايث (James Blyth) طالبًا فقيرًا يناضل من أجل التعليم. لقد كان بالفعل أستاذًا مرموقًا في الفلسفة الطبيعية بكلية أندرسون في مدينة غلاسكو، والتي تُعرف الآن بجامعة ستراثكلايد. كان بلايث فيزيائيًا ومهندسًا، شغوفًا بالكهرباء وتقنياتها الوليدة في أواخر القرن التاسع عشر.
في ذلك الوقت، كانت الكهرباء تُعد ترفًا مقتصرًا على الأثرياء، وتوليدها كان يعتمد بشكل أساسي على محطات البخار التي تعمل بالفحم. رأى بلايث أن هناك طريقة أفضل. وبدلاً من الاعتماد على الوقود الأحفوري، لماذا لا نستغل قوة الطبيعة نفسها؟ لماذا لا نستخدم تلك الرياح التي تهب مجانًا وتتحرك بلا توقف؟
الشرارة الأولى: توربين في حديقة المنزل
في يوليو من عام 1887، أثناء قضائه الصيف في منزله بقرية ميريكيرك، قرر بلايث أن يترجم أفكاره إلى واقع. قام ببناء توربين رياح بدائي ولكنه فعال في حديقته الخلفية. كان التوربين يتكون من شفرات كبيرة مصنوعة من القماش تدور حول محور عمودي، وكان الهدف منه بسيطًا ولكنه ثوري: شحن بطاريات لتوفير الطاقة الكهربائية لمنزله الصيفي.
لقد نجح بلايث فيما لم يسبقه إليه أحد. أصبح منزله أول منزل في التاريخ يضاء بالكهرباء المولدة من طاقة الرياح. لقد كان ذلك إنجازًا مذهلاً، يسبق عصر الطاقة المتجددة بمئة عام كاملة. لم يكن بلايث يبحث عن الشهرة، بل عن حل عملي يخدم احتياجاته اليومية.
رؤية متقدمة ورفض متأخر
بعد نجاحه، لم يحتفظ بلايث باختراعه لنفسه. رأى في هذا الجهاز فرصة لتحويل حياة مجتمعه. عرض على سكان قرية ميريكيرك أن يزودهم بالكهرباء من التوربين مجانًا، ليضيء بيوتهم وشوارعهم.
لكن رد فعلهم كان صادمًا. لم يستقبلوا فكرته بالترحاب، بل قوبلت بالريبة والرفض. كان سكان القرية يعتقدون أن الكهرباء "من عمل الشيطان"، وأن هذا الجهاز الذي يدور ليل نهار في حديقة الأستاذ أمر مريب وغريب. لقد كانوا مرتاحين لنمط حياتهم القديم المعتمد على الفوانيس التي تعمل بالغاز، ورفضوا هذا التغيير الجذري الذي كان يمثله اختراع بلايث. هذه الحادثة تبرز مدى تقدم بلايث على عصره، وكيف أن الابتكارات الرائدة غالبًا ما تواجه مقاومة في البداية.
إصرار يضيء مستشفى
لم يثنِ الرفض بلايث عن إيمانه بابتكاره. فبدلاً من الاستسلام، قرر أن يثبت جدوى توربينه في مكان آخر. في عام 1895، بنى توربينًا أكبر وأكثر تطورًا لتزويد مستشفى مونتروز للأمراض العقلية (الذي يُعرف الآن بالمستشفى الملكي في مونتروز) بالطاقة الكهربائية الطارئة. كان هذا التوربين أكبر وأقوى، وأثبت فعاليته واستمر في العمل بانتظام لأكثر من 20 عامًا.
لقد كان هذا الإنجاز العملي دليلًا على أن فكرة بلايث لم تكن مجرد تجربة فاشلة، بل كانت حلًا هندسيًا ناجحًا. لكن على الرغم من هذا النجاح، ظل اختراعه يقتصر على الاستخدامات العلمية والخاصة، ولم ينتشر تجاريًا.
إرث صامت يضيء العالم
لم يحصل جيمس بلايث على الشهرة التي يستحقها. فبينما كان توماس إديسون ونيكولا تسلا يتنافسان على الشهرة في "حرب التيارات"، كان بلايث يعمل بصمت في اسكتلندا، مدفوعًا بشغفه بالعلوم لا بالمال. لم يقم بلايث بتسجيل اختراعه كبراءة اختراع عالمية، وظل اختراعه يعتبر "فضولًا علميًا" أكثر من كونه اختراعًا تجاريًا.
عندما ننظر اليوم إلى مزارع الرياح الشاسعة التي تغطي السهول، يجب أن نتذكر الرجل الذي زرع أول بذرة. جيمس بلايث كان هو الرائد الحقيقي لطاقة الرياح، لكنه كان رائدًا منسيًا. قصته تذكرنا بأن النجاح لا يقاس دائمًا بالثروة أو الشهرة، بل بالإرادة والعزيمة على تحقيق فكرة، حتى لو كان العالم بأسره لا يرى قيمتها بعد.
إن كل توربين رياح يدور اليوم في أي مكان في العالم هو بمثابة تكريم صامت لإصرار الأستاذ الذي آمن بأن الرياح ليست مجرد طقس، بل هي طاقة يمكن أن تضيء العالم.
أمجد قاسم
X@amjad
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه