كتابة وتصوير جهاد جبارة - هي الصحراء إذن.. ذلك الكون الشاسع الذي لا حدود له ولا نهاية، وهي الرحلة الطويلة التي يقطعها القلب وثبا على نياطه، كاتمة الاسرار، وحافظة للعهد والوعد الذي قطعته لخالقها ذات لحظة تكوينها.
اعود لها مجددا منكسر القلب،
يعتريني الخجل جراء طول غياب، اعود لاقرأ مفردات وسطور كتابها ثانية لأجد بأني ما
زلت طفلا جاهلا لا يجيد التعرف على حروفها الهجائية، فمدرسة الصحراء لا تقبل
لتلاميذها الاستمتاع باجازة طويلة، او حتى فسحة بين حصصها المتراكمة والمتتالية..
لم تشأ تلك الحبيبة ان تسأل عن سر
غيابي الذي طال، لكنها فتحت ذراعيها واحتوتني بلهيب آبها وراحت تبوح لي بأسرار
وحكايا لم أكن قد سمعتها من قبل، ولم تكتف بل انها مدت لي يدا لتعطيني ما يعجز
الخلق عن صنعه.. لقد خصتني بما ابدعه مهندس الكون، وخالق الخلق فانهالت دموعي فرحا
لأسجد بعدها مؤمنا مسلما مستسلما لله سبحانه ما أكرمه.
* رحلة البحث عن حلقة النيزك
لقد تناهى الى مسامعي ان ثمة نيزك
كان قد ارتطم بأرض الصحراء في محيط سلسلة جبال «الثليثوات»، تلك المرتفعات التي
كنت قد تسلقتها مرارا ونقبت داخلها حيث وجدت الكثير من المستحاثات البحرية مثل
انياب اسماك القرش العملاقة والمفترسة التي كانت تعيش هناك ابان كانت المنطقة
مغمورة بمياه بحر «تيثس» العظيم الذي انحسر ليترك لنا قاعه المذهل هذا الذي نراه
اليوم.
خرجت من الأزرق قبل أيام واتجهت
ناحية «الثليثوات» جنوبا وعندما راحت تلك السلسلة الجبلية ذات المرتفعات الثلاث تلوح
لي عن بعد وكأنها ظلال سمراء غير واضحة المعالم بعدما قدرت ان ثمة بضعة كيلومترات
لا بد من قطعها لأعبر بعدها أرض الصحراء شرقا للوصول الى سلسلة تلال مرتفعة يربو
امتدادها على عشرات الكيلو مترات وهي المنطقة المعروفة ب«وقف الصوان» في محاولة
مني للوقوف على تلة مرتفعة منها علني اتمكن من استكشاف المواقع المحيطة والمنخفضة
من ذلك العلو..
وبعد مسير زاد عن ثلاثين كيلومترا
على أرض صحراوية خلت من الحياة باستثناء بعض الشجيرات الصغيرة التي احترقت جراء
شمس هذا الصيف الملتهب رحت اقترب من «وقف الصوان»، وهناك توقفت حيث لم يكن بوسع
السيارة الصحراوية التقدم اكثر لأن طبيعة وتشكيل حجارة الصوان التي غطت الموقع
كانت تشكل خطرا على عجلاتها وقد تؤدي الى تمزيقها..
ترجلت ورحت ابحث بين ركام الصوان
عن حجارة ذات تركيب مختلف الى ان رحت بعدها اعثر على تلك العقيدات الصوانية (CONCRETIONS) والتي تشقق سطحها بشكل هندسي يكاد يشبه شكل قوقعة
السلحفاة مما يشير الى ان موقع ارتطام النيزك بات قريبا مني «وسأقوم لاحقا بتفسير
هذه الظاهرة». لقد جمعت عددا لا بأس به من عينات تلك «العقيدات» لاغراض الفحص
لاحقا، لاصعد بعدها تلك التلة المرتفعة والتي تمكنت من خلالها رصد الاراضي
المنخفضة المحيطة بي، كانت كافة التشكيلات متشابهة، لم يستفز انتباهي اي منها
باستثناء تلك الحلقة الدائرية المكونة من مجموعة من التلال السوداء المترابطة مع
بعضها وفي وسطها ظهرت تلال اقل حجما ذات لون ترابي باهت... انها حلقة النيزك التي
كنت ابحث عنها والتي كانت تبعد عن الموقع الذي اقف عليه قرابة خمسة كيلومترات الى
الجنوب الغربي منه.
* نيزك خاتم الصوان
لا ادري... لا احد ايضا يدري،
الله وحده يعلم تلك الساعة التي افلتت قطعة من مكونات الكوكب المسمى «خاتم استرويد» - ASTROID RING - وانطلقت بتسارع متجهة نحو صحراء «وقف الصوان» قبل آلاف
السنين التي تتراوح من سبعة الى عشرة الاف.. لقد كانت وجهة ذلك الجسم الساقط تلك
الفيافي في لحظة سكينة وهدوء، لكن هذه السكينة، وهذا الهدوء لم يدوما كثيرا بعد
الارتطام المروع الرهيب الذي حدث على حين غفلة من الزمن... لعلها كانت مساء، ليلا،
ام فجرا قبل شروق شمس ذلك النهار بينما كانت ذئاب ربما تبحث عن طرائد لتقتات على
لحمها لحظة الارتطام؟!..
هل كانت ليلة شتائية سماؤها ملبدة
بغيوم ماطرة؟... ام ان السماء خلالها كانت عارية من السحب تتمدد على بساط من
النجوم ولم يكن سوى القمر المستدير بضوئه الساطع يستمتع بمشاهدة السماء بينما
الارانب الجافلة فرت الى جحورها مبتعدة عن هذا المشهد لحظة الارتطام؟! كل هذا لم
يكن يعني شيئا لذلك النيزك الذي زاد قطره عن مائة متر حسب القرائن المشاهدة في
بؤرة السقوط CRATER ،والذي كان يهوي ربما قادما الى صحرائنا من الجنوب
الشرقي ليغوص في الارض على عمق يتراوح بين 300م - 400م مثيرا الاتربة، والادخنة،
وفتاة الصخور لتغطي قرص الشمس لشهور عدة وربما لسنوات...
لقد كان شوق ذلك النيزك عارما
للقاء الارض وتدل على ذلك سرعته في الهبوط اذ كانت تتراوح بين 40-50كم الثانية
الواحدة اي من 2400 - 3000 كيلومتر في الدقيقة الواحدة .. اي شوق هذا يا رباه؟!
ليست وحدها سرعة الهبوط هي التي
كانت تدل على شوقه للقيا الارض بل درجة حرارته التي كانت تتراوح بين 7000 - 100000
درجة مئوية، مما رفع من درجة سخونة الجو حيث وصلت الى 2000 درجة مئوية في المناطق المحيطة
وعمل على احتراقها وهنا لا بد من العودة الى العقيدات الحجرية التي ذكرت عن تشقق
سطوحها سابقا - ان لحظة الارتطام احالت المناطق المحيطة الى محرقه ذات درجات حرارة
مرتفعة جدا فتحولت هذه العقيدات الى جمر ملتهب لكن درجات حرارتها انخفضت سريعا لدى
حدوث غياب مفاجئ لحرارة الشمس مما عمل على ظهور هذه الشقوق التي نرى - اي ما يشبه
حالة القدح الحار الذي نسكب داخله ماء باردا جدا فيتحطم.
ان الهدوء والسكينة التي كانت
سائدة قبل لحظات من عبور هذا النيزك لاجواء الارض سرعان ما تبددت لان احتكاك هذا
الجسم ذو السرعة الهائلة في الاجواء عمل على تخلخل الهواء مما صدر عنه ذلك القصف
الرعدي المرعب والذي يعتقد انه وصل الى مواقع في «الاسكا» شمالا..
من المرجح ان الموقع الذي انطلق
منه ذلك النيزك هو كوكب «استرويد»
-ASTROID- كما اسلفت ومن
المعروف ان هذا الكوكب «استرويد» كان قد تفتت الى قطع لسبب نجهله لكن هذه القطع
كونت حلقة لا زالت تدور حول الشمس ضمن مدار معروف لكن في حالة افلتت احدى تلك
القطع من مدارها فإنها إما ان ترتطم بالارض او بكواكب اخرى غيرها، او اقمار وعن
تركيب هذا النيزك فقد ابلغني الاستاذ الدكتور «الياس سلامة» من الجامعة الاردنية ان
الابحاث ما زالت جارية لمعرفة ماهية التكوين فإما ان يكون نيزكا حديديا، او صخريا،
او جليديا غير ان التركيب الذي سيتم التوصل اليه لن يغير من شأن النيزك طالما ان
نتائج الارتطام ترتبط بعنصري الطاقة والسرعة للنيزك.
ومن على قمة عالية من احد تلك
التلال لاحت لي متسعة بانبساط تلك البؤرة CRATER التي
امتصت غضب النيزك فهبطت ناحيتها وهناك رحت اتفحص التربة الخالية من اي نوع من
انواع الحياة.. وهناك راحت الاذن تستعطف الماضي السحيق عله يعيد قصف الرعد الى
مسامعها، كما راحت العين تتوسل السماء علها تعيد مشهد الفيضان العارم الذي احدثه
ارتطام النيزك بالارض.. ولعل لقطعة الصوان الدائرية الرقيقة التي عثرت عليها في
الموقع علاقة ما بهذا الفيضان الذي احدثه الارتطام، ان تلك القطعة تحمل نقش
الجلالة «الله» ويظهر اسفل النقش طائر حمام يحمل بمنقاره اوراق شجرة..
هناك في بؤرة الارتطام كاد المشهد
ان يتكرر امامي وبكل ما كان يحمله مطر السماء الدموي الاحمر المطر الحمضي الذي
يعقب الكارثة.. عندها سرت في جسدي قشعريرة وتجمدت الدماء في العروق.. هي ذات
القشعريرة التي سرت في جسد ذئب جفل هلعا لحظة الارتطام فلم تسعفه قوائمه بالفرار
فكان ربما اول ضحايا الارتطام!!
جريدة الرأي الأردنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه