مدونة إضاءات

إضاءات مدونة ثقافية تعنى بالإبداع والابتكار والتنمية البشرية

اخر الأخبار

Post Top Ad

الثلاثاء، 4 نوفمبر 2025

الزمن الداخلي: كيف كشفت تجربة ميشيل سيفر سرّ إدراك الإنسان للوقت

 


الإنسان والزمن بين العلم والفلسفة

منذ فجر التاريخ، كان الزمن أكثر المفاهيم غموضًا وإثارة للتأمل. هل هو نهر خارجي يجرفنا في مجراه، أم أنه انعكاس لحالتنا النفسية والإدراكية؟

 

في عام 1972، قدّم العالم الفرنسي ميشيل سيفر (Michel Siffre) تجربة ميدانية فريدة جعلت هذا السؤال علميًا بقدر ما هو فلسفي. فقد قرر أن يعزل نفسه تمامًا عن الضوء والوقت داخل كهفٍ عميق، ليختبر كيف يتصرّف عقل الإنسان عندما يُحرَم من كل إشارات الزمن الخارجية. لم تكن التجربة مجرد دراسة بيولوجية، بل رحلة في أعماق الذات الإنسانية.


تجربة سيفر: رحلة إلى باطن الأرض والعقل

نزل ميشيل سيفر إلى كهف في ولاية تكساس الأمريكية، على عمق يقارب 130 مترًا تحت سطح الأرض، دون ساعات أو ضوء أو تواصل بشري مباشر. كان الهدف من التجربة هو مراقبة “الإيقاع الحيوي الداخلي” أو ما يُعرف علميًا بـ الساعة البيولوجية (Circadian Rhythm)، وهي النظام الذي يتحكم في النوم واليقظة، والإحساس بالوقت داخل أجسامنا.

ومع مرور الأيام، بدأ سيفر يلاحظ اضطراب إدراكه للوقت. كان يعتقد أن اليوم لا يزال مستمرًا، بينما مرّ يومان كاملان في الواقع. ومع غياب الشروق والغروب، أنشأ جسده دورة جديدة: 36 ساعة من النشاط يعقبها 12 ساعة من النوم. لقد أثبتت التجربة أن الإيقاع الداخلي للإنسان لا يعتمد كليًا على الزمن الخارجي، بل يمكن للعقل أن “يخلق” زمنه الخاص .

 

إدراك الزمن

ما يجعل تجربة سيفر ملهمة في مجال التنمية الذاتية، هو ما كشفته عن قدرة الإنسان على التكيّف وإعادة تشكيل ذاته. في عزلة تامة، دون محفزات خارجية، برزت قوة الإرادة والانضباط الذاتي كعاملين أساسيين للبقاء.

تُظهر التجربة أن الإنسان يمتلك مصادر داخلية من التنظيم، الإبداع، والتوازن النفسي، لكنها غالبًا لا تنكشف إلا في غياب المؤثرات الخارجية. إن العزلة ليست دائمًا فقدانًا للحياة الاجتماعية، بل يمكن أن تكون فرصة لإعادة اكتشاف الذات.

من منظور التنمية الذاتية، يمكن النظر إلى تجربة سيفر كرمز لرحلة الإنسان المعاصر نحو الوعي الذاتي. نحن نعيش في زمن محمّل بالمحفزات الرقمية والضوضاء الحسية التي تشوّه إحساسنا بالوقت والهدف. وعندما يختار الإنسان “كهفه الخاص” — أي لحظة الصمت والتأمل — فإنه يبدأ في إعادة ضبط ساعته الداخلية، واستعادة السيطرة على إيقاع حياته.

 

العزلة كأداة للنمو لا للانهيار

على الرغم من التحديات النفسية التي واجهها سيفر، فإن نتائج تجربته لم تكن انهيارًا، بل نقطة تحوّل في فهم علاقة الإنسان بذاته. فالعزلة الطويلة مكّنته من مراقبة التغيرات في نومه، وتفكيره، ومشاعره، ليكتشف أن الوقت ليس فقط شيئًا نقيسه، بل شيئًا نحسّه ونبنيه إدراكيًا.

في مجال التنمية الذاتية، تُعدّ هذه النتيجة ذات قيمة كبيرة. فهي تدل على أن الإنسان يستطيع أن يعيد تعريف الزمن في حياته، ليس بحسب الساعة أو الجداول، بل بحسب الطاقة الذهنية والنفسية التي يخصصها لكل نشاط. هذه الفكرة تتقاطع مع ما يُعرف اليوم بمفهوم الإدارة الواعية للوقت” (Mindful Time Management)، حيث يركّز الإنسان على جودة اللحظة أكثر من كميتها.

 

الدروس المستفادة: من كهف سيفر إلى حياة الإنسان اليومية

1.     إدارة الذات تبدأ من الداخل: التجربة تبرهن أن النظام الحقيقي ليس ما تفرضه البيئة، بل ما ينشئه العقل من انضباط داخلي.

2.     الوعي بالزمن هو وعي بالذات: كلما فهمنا كيف نحسّ بالوقت، فهمنا كيف نفكّر ونعيش.

3.     العزلة الواعية وسيلة للنمو: ليست كل عزلة سلبية، بل يمكن أن تكون بيئة خصبة للتأمل، والتجدد، والإبداع.

4.     التوازن بين الخارج والداخل: الإنسان يحتاج إلى العالم الخارجي للتحفيز، وإلى العالم الداخلي للتنظيم. كلاهما جناحان للتنمية المتكاملة.

خاتمة

لم تكن تجربة ميشيل سيفر مجرد مغامرة علمية في كهف مظلم، بل تجربة وجودية أضاءت طبيعة الوعي الإنساني. فقد بيّنت أن الزمن ليس مجرد تدفق فيزيائي خارجنا، بل تجربة نفسية نبنيها داخلنا. ومن هنا، فإن أعظم إنجاز للإنسان ليس السيطرة على عقارب الساعة، بل الانسجام مع “ساعته الداخلية” ليعيش حياة أكثر وعيًا واتزانًا.

 

المراجع

 

1.     Siffre, M. (1975). Beyond Time: The Science of Isolated Living. Harper & Row.

2.     Czeisler, C. A., & Gooley, J. J. (2007). “Sleep and Circadian Rhythms in Humans.” Cold Spring Harbor Symposia on Quantitative Biology, 72, 579–597.

3.     Foster, R., & Kreitzman, L. (2017). Circadian Rhythms: A Very Short Introduction. Oxford University Press.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

Post Top Ad

الصفحات