كيف أنقذ الكلور في مياه الشرب ملايين البشر: قصة المهندس المجهول لويس كامينير

 

عندما نتحدث عن أعظم الابتكارات التي غيّرت وجه العالم، غالبًا ما تتجه أذهاننا إلى الكهرباء والإنترنت والطب الحديث. 

 لكن خلف هذه القائمة الطويلة من الإنجازات، تكمُن أفكار بسيطة كان لها تأثير يفوق كل التوقعات، وأحد أهم هذه الأفكار كان من نصيب مهندس كيميائي شاب يُدعى لويس كامينير في بدايات القرن العشرين .

 

عالم كان يخسر معركته مع الماء

قبل عام 1914، كانت الولايات المتحدة وأوروبا تواجه واحدة من أخطر أزماتها الصحية على الإطلاق.

فالمياه التي يشربها الناس — سواء من الآبار أو الأنهار أو قنوات النقل — كانت ملوثة بشكل كبير بالبكتيريا الممرِضة.

وانتشرت أمراض مثل الكوليرا والحمّى التيفية انتشارًا كارثيًا، حتى أن آلاف الأشخاص كانوا يفقدون حياتهم سنويًا بسبب شرب الماء فقط.

لم تكن هناك تقنيات فعّالة وسريعة لتطهير المياه. فالترشيح وحده لم يكن كافيًا، والطرق الأخرى كانت مكلفة أو غير عملية، مما جعل البشر عرضة لأوبئة دورية تحصد الأرواح وتترك المدن في حالة خوف دائم.

 

فكرة جريئة… وإرادة أقوى

في هذه الظروف الصعبة، برز المهندس الكيميائي الشاب لويس كامينير (Louis Kammannier) — أو كما تذكره بعض المصادر باسم قريب في اللفظ Kammanner — بفكرة بدت غريبة في ذلك الزمن: لماذا لا نستخدم غاز الكلور لتطهير المياه؟

كان الكلور معروفًا بقدرته على قتل البكتيريا منذ القرن التاسع عشر، لكن لم يجرؤ أحد على تطبيقه على نطاق واسع داخل شبكات المياه العامة. فقد كانت مخاوف الناس من المواد الكيميائية كبيرة، وكانت الجهات الصحية مترددة لأنها لم تكن تملك فهمًا شاملًا لتأثير الكلور على صحة الإنسان.

ورغم ذلك، أصر كامينير على تجربة الفكرة. بدأ العمل على تصميم نظام دقيق لحقن جرعات صغيرة ومدروسة من غاز الكلور في المياه داخل إحدى محطات المعالجة. كانت الفكرة بسيطة في ظاهرها، لكنها احتاجت إلى حسابات معقدة لضمان فعاليتها وأمانها.

 

التحوّل التاريخي

عندما طُبِّقت الفكرة لأول مرة، كانت النتائج مذهلة بكل المقاييس. فقد انخفضت أعداد البكتيريا الممرضة في المياه إلى مستويات شبه معدومة، وتحسّنت جودة المياه بشكل فوري تقريبًا. والأهم من ذلك، بدأت معدلات الوفيات الناتجة عن الأمراض المنقولة بالمياه تتراجع بشكل حاد في المدن التي تبنّت هذا النظام.

لم تمض سنوات قليلة حتى انتشر استخدام الكلور في محطات معالجة المياه في مختلف دول العالم، لتبدأ سلسلة من التحوّلات الصحية التي اعتبرها الخبراء لاحقًا أحد أهم الأسباب في زيادة متوسط العمر المتوقع لدى البشر في القرن العشرين.

 

إنقاذ البشرية من خلف الستار

المفارقة المدهشة هي أن اسم لويس كامينير لم يصبح مشهورًا، رغم أن ابتكاره أنقذ الملايين، وربما أكثر مما أنقذته اكتشافات كبرى في مجال الطب. فبينما سُلّط الضوء على إنجازات العلماء والأطباء الذين واجهوا الأمراض مباشرة، بقي المهندس الذي جعل الماء آمناً غير معروف إلا ضمن دوائر هندسية محدودة.

قصة كامينير ليست مجرد حكاية عن ابتكار، بل درس عميق في معنى القيمة الحقيقية للأفكار.

فالبطولة ليست دائمًا في الأسماء اللامعة، بل في الأشخاص الذين يملكون الشجاعة لتجربة شيء جديد حين يخشى الآخرون الإقدام عليه.

 

الكلور اليوم: خطوة أولى نحو تقنيات أكثر تطورًا

اليوم، لا تكاد توجد دولة في العالم لا تعتمد على الكلور — أو أحد مشتقاته — في عمليات تطهير المياه. ورغم تطور البدائل مثل التطهير بالأوزون والأشعة فوق البنفسجية، ما تزال تقنية الكلورة أساسًا رئيسيًا في حماية الصحة العامة.

كذلك، أصبحت دراسة تأثير الكلور ومركباته على جودة المياه وصحة الإنسان فرعًا مستقلًا في علوم البيئة والهندسة الصحية. وقد أثبتت البحوث الحديثة أن جرعات الكلور المستخدمة ضمن المعايير العالمية آمنة وفعّالة، وأن فوائدها في حماية المجتمع تفوق بكثير أي مخاطر محتملة عند الاستخدام الصحيح.

 

درس يستحق التأمل

إن قصة لويس كامينير تذكّرنا بأن العالم لا يتغير دائمًا على أيدي العباقرة الذين يتصدّرون العناوين. أحيانًا، تكفي فكرة بسيطة، مطبّقة بشجاعة ودقّة، لتعيد كتابة تاريخ البشرية  .

 

م. أمجد قاسم 

 

المراجع

 

1.     Centers for Disease Control and Prevention (CDC). “History of Drinking Water Treatment.”

2.     World Health Organization (WHO). “Guidelines for Drinking-water Quality.”

3.     Pontius, F. W. “Water Chlorination: A Technical and Historical Overview.” Journal of the American Water Works Association.