هل لاحظت أنك – دون تفكير – تتجه إلى المقعد نفسه في القاعة أو الفصل أو حتى في المقهى؟
قد يبدو الأمر تفصيلًا بسيطًا، لكنه في الحقيقة نافذة دقيقة نطلّ منها على عوالم نفسية واجتماعية وسلوكية عميقة.
اختيار “المقعد المفضل” ليس صدفة، ولا مجرد عادة بلا معنى، بل انعكاس لحاجة الإنسان إلى الأمان، السيطرة، والانتماء .
أولًا: البعد النفسي – الأمان في المألوف
من الناحية النفسية، يميل الإنسان بطبيعته إلى المألوف. الدماغ البشري يحب الأنماط المتوقعة لأنها تقلل الجهد الذهني وتحد من القلق.
عندما نجلس في المقعد نفسه، فإننا نخلق بيئة معروفة: زاوية الرؤية، المسافة من المدرّس أو المحاضر، مستوى الضوضاء، وحتى الإضاءة.
هذا
الشعور يمكن تلخيصه بمفهوم “منطقة الراحة النفسية” (Comfort Zone).
المقعد المألوف
يمنحنا:
- إحساسًا بالسيطرة على المكان.
- تقليل التوتر الناتج عن التغيير.
- راحة ذهنية تساعد على التركيز.
تشير دراسات في علم النفس المعرفي إلى أن الإنسان يميل إلى اتخاذ الخيارات التي تتطلب أقل قدر من المعالجة الذهنية، وهو ما يُعرف بمبدأ Cognitive Ease. اختيار المقعد نفسه قرار “سهل”، ولا يستدعي إعادة تقييم في كل مرة.
ثانيًا: البعد الاجتماعي – المكان كهوية غير معلنة
المقعد ليس مجرد مكان للجلوس، بل رسالة اجتماعية صامتة.
في القاعات والفصول، تتشكل “خرائط غير مكتوبة” توزع الأشخاص بحسب شخصياتهم وأدوارهم الاجتماعية.
على سبيل المثال:
- الجلوس في الصفوف الأمامية قد يوحي بالاهتمام، والطموح، أو الرغبة في التفاعل.
- الجلوس في الخلف قد يعكس رغبة في الخصوصية، أو تجنب لفت الانتباه.
- المقاعد الوسطية غالبًا ما يرتاح لها من يفضل التوازن بين المشاركة والهدوء.
مع الوقت، يصبح المقعد جزءًا من هوية الفرد داخل الجماعة. الآخرون يتوقعون وجودك في مكانك المعتاد، وغيابك المفاجئ عنه قد يلفت الانتباه.
هكذا يتحول المكان إلى عنصر من عناصر الانتماء، ويمنح صاحبه شعورًا ضمنيًا بالاستقرار الاجتماعي.
ثالثًا: البعد السلوكي – العادة أقوى من القرار
سلوكيًا،
تفسَّر هذه الظاهرة ضمن مفهوم تكوّن العادات (Habit Formation).
العادة لا تبدأ
كخيار واعٍ دائمًا، لكنها تتكرس عبر:
1. موقف متكرر (حضور القاعة).
2. سلوك ثابت (اختيار المقعد ذاته).
3. مكافأة غير مباشرة (راحة، تركيز، أمان).
مع
التكرار، يتحول السلوك إلى استجابة تلقائية.
هنا لا نسأل
أنفسنا: “أين سأجلس؟”
بل يتحرك الجسد
قبل أن يتدخل التفكير.
تشير أبحاث علم النفس السلوكي إلى أن العادات اليومية تشكل أكثر من 40% من سلوكنا اليومي، وغالبًا ما نقاوم تغييرها حتى لو لم يكن هناك سبب عقلاني واضح للاستمرار فيها.
هل في ذلك مشكلة؟
في حدّه الطبيعي، لا تُعد هذه العادة سلبية. بل قد تكون مفيدة، خاصة في بيئات التعلم أو العمل، حيث يساعد الاستقرار المكاني على تعزيز التركيز والشعور بالثقة.
لكن المشكلة تظهر عندما:
- يصبح التغيير مصدر قلق مفرط.
- نرفض الجلوس في أي مكان آخر حتى عند الضرورة.
- نربط الأداء أو الراحة كليًا بمكان واحد.
في هذه الحالة، يصبح المقعد رمزًا لاعتماد نفسي غير صحي على الثبات، وقد يكون من المفيد كسر النمط بين الحين والآخر، كتجربة بسيطة لتوسيع دائرة الراحة.
الخلاصة
اختيار المقعد نفسه ليس عادة عابرة، بل سلوك مركب يتقاطع فيه:
- علم النفس: البحث عن الأمان والراحة الذهنية.
- علم الاجتماع: الهوية والانتماء داخل الجماعة.
- علم السلوك: قوة العادة والتكرار.
وفي عالم سريع التغير، ربما يكون هذا السلوك واحدًا من الطرق الصغيرة التي نحاول بها الإبقاء على شيء ثابت… حتى لو كان مجرد مقعد.
وأحيانًا، هذا الثبات البسيط هو ما نحتاجه لنشعر أن الأمور ما زالت تحت السيطرة .
م. أمجد قاسم
المراجع
1.
American Psychological Association
The psychology of habits
https://www.apa.org/monitor/nov01/habit
2.
Kahneman, D. (2011).
Thinking, Fast and Slow
https://www.goodreads.com/book/show/11468377-thinking-fast-and-slow
3.
Wood, W. & Neal, D. T. (2007).
A New Look at Habits and the Habit-Goal Interface
https://doi.org/10.1111/j.1467-8721.2007.00503.x
4.
Gifford, R. (2007).
Environmental Psychology: Principles and Practice
https://www.sciencedirect.com/book/9781841694852/environmental-psychology
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه