تخيل نفسك في منتصف مكالمة هاتفية، تتحدث وتعلو نبرة صوتك، وتبدأ يداك تتحركان في الهواء: تلوّح، تشير، ترسم دوائر وهمية.
لكن لحظة... الطرف الآخر على الخط لا يراك!
فما الفائدة من هذه الحركات؟
لماذا نصرّ على استخدام لغة الجسد حتى عندما لا تُرى؟
هذه الظاهرة المألوفة، التي نمارسها دون وعي، ليست غريبة بقدر ما هي انعكاس لعمق الترابط بين الجسد والعقل واللغة.
لغة الجسد: مكون أساسي في التواصل البشري
قبل اختراع الهاتف، كان التواصل الإنساني يتم وجهاً لوجه، حيث لا تقتصر الرسائل على الكلمات فقط، بل تشمل تعابير الوجه، ونبرة الصوت، وحركات اليدين.
لغة الجسد تمثل جزءًا لا يتجزأ من عملية إيصال المعنى. حتى اليوم، تشير الدراسات إلى أن أكثر من 60% من التواصل بين البشر يتم عبر الإشارات غير اللفظية.
لذلك، عندما نتحدث عبر الهاتف، لا نستطيع فجأة أن نعزل أنفسنا عن عاداتنا المتجذرة في التواصل.
الجسد يتصرف كما لو أن المستمع أمامنا، لأن الدماغ لا يفرّق بشكل فوري بين الحديث المباشر والمكالمة الهاتفية من حيث آليات التعبير.
التفسير العصبي: كيف يعالج الدماغ التواصل؟
من وجهة نظر علم الأعصاب، فإن الأجزاء المسؤولة عن الكلام والتعبير مثل Broca’s area في الدماغ تتفاعل مع مناطق الحركة والتنسيق الحركي مثل motor cortex. هذا الترابط الوثيق يجعل من حركات اليدين رفيقًا تلقائيًا للحديث، حتى لو لم يكن هناك متلقٍ مرئي.
تشير الأبحاث إلى أن استخدام الإيماءات أثناء الكلام يسهّل على المتحدث تنظيم أفكاره، واسترجاع الكلمات بشكل أسرع، ويقلل من التوتر.
هذا يعني أن التلويح باليدين أثناء المكالمة ليس محاولة للتأثير على الطرف الآخر، بل أداة يستخدمها العقل لمساعدة نفسه على التعبير.
التأثيرات النفسية والسلوكية
يميل الناس إلى استخدام الإيماءات أكثر عندما يكونون متحمسين، ومتوترين، أو يحاولون شرح فكرة معقدة.
هذه الحركات تساعدهم على تخفيف التوتر وتنظيم الانفعالات. في سياق المكالمة الهاتفية، حيث نفتقد التغذية الراجعة البصرية من الطرف الآخر، تصبح الحاجة إلى تعويض هذا النقص قوية.
فتلجأ أدمغتنا لحركات الجسد كوسيلة لخلق وهم وجود تواصل مباشر، مما يمنح شعورًا بالأمان والتحكم.
في إحدى الدراسات التي أجريت في جامعة شيكاغو، طُلب من المشاركين شرح مفهوم معقد عبر الهاتف، فظهر أن أولئك الذين استخدموا الإيماءات أثناء الشرح كانوا أكثر وضوحًا وتنظيمًا من الذين لم يفعلوا.
التواصل غير اللفظي كجزء من "الذاكرة العضلية"
التلويح باليد أثناء الكلام هو فعل متعلم نمارسه منذ الصغر. تمامًا كما نغلق الباب خلفنا دون تفكير، أو نقود السيارة بشكل شبه تلقائي، فإن الإيماءات أصبحت جزءًا من "الذاكرة العضلية" أثناء الحديث.
لذلك، لا يتطلب الأمر وجود جمهور فعلي لتحفيز هذه الحركات. بمجرد أن يبدأ الحديث، يبدأ الجسد في العمل تلقائيًا.
الهواتف الذكية... والتفاعل الجسدي
رغم أن الهواتف الحديثة تقلل من الحاجة إلى الإيماءات بسبب اعتماد البعض على الرسائل النصية أو الرموز التعبيرية، إلا أن المكالمات الصوتية ما تزال تستثير هذا السلوك الجسدي.
في الواقع، في مكالمات الفيديو أو حتى الرسائل الصوتية، نشهد عودة قوية لهذه الإيماءات، مما يدل على أنها جزء لا يتجزأ من بنيتنا الإدراكية والاجتماعية.
لماذا لا نلاحظ أننا نفعل ذلك؟
بساطة هذا السلوك تكمن في أنه "أوتوماتيكي"، أي غير واعٍ. كثيرون لا يدركون أنهم يلوّحون بأيديهم أو يؤدون إشارات أثناء المكالمة حتى يُلفت أحدهم انتباههم.
الدماغ ببساطة يُشغّل نمطًا مألوفًا من التفاعل، تمامًا كما نفعل عند قيادة السيارة لمسافة طويلة دون أن نتذكر كل التفاصيل.
هل من خطورة في ذلك؟
على العكس، هذا السلوك مفيد في معظم الأحيان. لكنه قد يكون خطيرًا فقط إذا صاحبه انشغال أثناء قيادة السيارة، أو أدى إلى تحريك اليد بشكل غير مقصود تجاه جسم صلب (كأن تصدم يدك بالجدار!).
ما عدا ذلك، فهو تعبير فسيولوجي طبيعي وصحي يدل على أن العقل يعمل بكفاءة عالية.
أكثر من مجرد عادة
قد يبدو التلويح باليد أثناء مكالمة هاتفية سلوكًا طريفًا أو عديم الفائدة، لكنه في الحقيقة يعكس شبكة معقدة من العمليات النفسية والعصبية والاجتماعية.
إنه تذكير بأن الإنسان كائن تواصلي لا ينفصل فيه الجسد عن الفكر. وعندما يتحرك الجسد، حتى في غياب من يراه، فإنه ببساطة يشارك في الرقصة الخفية للكلمات والمعاني.
أمجد قاسم
المصادر:
McNeill, D. (2005). Gesture and Thought. University of Chicago Press.
Goldin-Meadow, S. (2014). How our hands help us think. Harvard University Press.
Cook, S. W., et al. (2008). Gesturing makes learning last. Journal of Memory and Language.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه