مدونة ثقافية تعنى بالإبداع والابتكار والتنمية البشرية

اخر الأخبار

Post Top Ad

الأحد، 1 يونيو 2025

الزئبق الأحمر في مكائن الخياطة: بين الخرافة والهوس الجماعي


في مطلع الألفية، وبينما كانت شبكات التواصل الاجتماعي في بداياتها، اجتاحت العالم العربي موجة هستيرية من نوع خاص: إشاعة تقول إن مكائن الخياطة القديمة، وخاصة ماركة "سنجر"، تحتوي في داخلها على مادة نادرة وثمينة تُدعى "الزئبق الأحمر".

 

خلال بضعة أيام، تحوّلت هذه المكائن من خردة مهجورة إلى كنوز يُتنازع عليها في السوق السوداء، وسط قصص خيالية ومطاردات غريبة.

 

فما الحقيقة؟ ولماذا صدّق الآلاف هذه الخرافة؟

 

الزئبق الأحمر: ما هو ومتى بدأ الحديث عنه؟

 

الزئبق الأحمر (Red Mercury) هو اسم لمادة مثيرة للجدل والغموض، تصدّرت عناوين الأخبار والشائعات منذ ثمانينيات القرن العشرين، دون أن يكون لها وجود علمي مؤكد أو وصف كيميائي معترف به.

 

وقد ورد اسم هذه المادة في البداية ضمن تقارير غامضة مرتبطة بالاتحاد السوفيتي السابق، وقيل إنها تُستخدم في صناعة القنابل النووية أو كبديل لمكونات عالية الإشعاع، رغم عدم توفر أي دليل حقيقي يدعم هذه الادعاءات.

 

ومنذ ذلك الحين، تحوّلت "الزئبق الأحمر" إلى محور للعديد من الشائعات في العالم العربي، إذ نُسبت إليه قدرات خارقة تتراوح بين تسهيل العثور على الكنوز المدفونة، والتواصل مع الأرواح، وحتى استخدامه في أعمال السحر الأسود.

 

رغم أن الاسم يوحي بتركيبة كيميائية مشتقة من الزئبق، إلا أن الأبحاث العلمية لم تُثبت وجود مادة تحمل هذا الاسم بتركيبة فريدة تختلف عن الزئبق المعروف (Hg). بعض التقارير تشير إلى أن "الزئبق الأحمر" قد يكون مجرد زئبق مضاف إليه صبغة أو مواد أخرى تعطيه لونًا مائلًا إلى الحمرة، لكن ذلك لا يمنحه أي خواص خارقة أو نادرة.

 

وعليه فقد زُعِم أن الزئبق الأحمر له قيمة عالية للغاية، كما يستخدم في صناعة الأسلحة النووية، كما يستعمل في طقوس السحر واكتشاف الكنوز.

 

هذا ويعتقد الكثير من العلماء أن الزئبق الأحمر مجرد خدعة تسويقية أو استخباراتية، استُخدمت في تهريب معدات وأجهزة معينة خلال فترات الصراع.

 

إن استمرار تداول الزئبق الأحمر بين الناس، رغم غياب الدليل العلمي، يكشف عن هشاشة الوعي العلمي في بعض المجتمعات، وسهولة استغلال الغموض لتحقيق أرباح مادية أو إثارة الذعر. وهو مثال واضح على كيف يمكن للأساطير الحديثة أن تنمو في بيئة مشبعة بالخرافات والقصص غير الموثقة.

 

كيف بدأت إشاعة ماكنات الخياطة والزئبق الأحمر؟

 

الشرارة انطلقت من احد الدول العربية في المشرق العربي،أوائل العقد الأول من القرن 21، حين بدأ تداول شائعات مفادها أن مكائن خياطة قديمة من نوع "سنجر – Singer" تحتوي في إبرها أو رأسها الداخلي على الزئبق الأحمر.

 

الإشاعة تضخمت بسرعة بسبب  :

مقاطع صوتية ومرئية انتشرت عبر الهواتف.

قصص "ناقلها ثقة" عن أشخاص باعوا الماكينة بمبالغ ضخمة.

ظهور تجار في الأسواق يعرضون شراء المكائن القديمة بأسعار خيالية.

 

سلوك غريب: فحص الماكينات بالهاتف!

 

من أغرب الظواهر المصاحبة، أن البعض بدأ يستخدم الهواتف المحمولة لاختبار وجود الزئبق الأحمر داخل الماكينة، عبر ملاحظة تغير الإشارة أو قوة الشبكة عند تقريب الهاتف من المكينة.

 

وتم تفسير هذه الظاهرة ـ خطأً ـ بأنها دليل على وجود مادة مشعة.

 

لاحقًا، بيّن خبراء أن هذا ناتج عن التداخلات المعدنية العادية في الجسم المعدني للماكينة.

 

السوق يشتعل: أسعار خيالية وخداع جماعي

 

بسبب الإشاعة، ارتفعت أسعار مكائن "سنجر" المهجورة إلى آلاف الدولارات. ووصل الهوس لدرجة:

 

سرقة مكائن من البيوت.

نزاعات عائلية على الماكينات القديمة.

ظهور تجار "مجهولين" يعرضون شراء المكائن نقداً.

 

واستغل المحتالون الفرصة ليبيعوا مكائن عادية بأسعار فلكية، زاعمين أنها تحتوي على الزئبق الأحمر، مما تسبب بخسائر مادية كبيرة لكثيرين.

 

تحليل الظاهرة: لماذا صدّق الناس هذه الخرافة؟

 

تُعد هذه الظاهرة نموذجًا مثاليًا لما يُعرف بـ:

 

الهستيريا الجماعية (Mass Hysteria).

سلوك القطيع (Herd Behavior).

نظرية المؤامرة وانعدام الثقة بالمصادر الرسمية.

 

الناس عادةً ما ينجذبون لفكرة الثروة السريعة، خصوصًا إذا كانت القصص تَستَند إلى "شهادات شخصية" أو روايات من أشخاص يدّعون المصداقية، وهو ما يزيد من تأثير الإشاعة في غياب التفكير النقدي.

 

ما رأي العلم؟

 

الهيئات العلمية ومختبرات الفحص أكدت بما لا يدع مجالًا للشك:

لا وجود لأي زئبق أحمر في مكائن الخياطة.

المادة لا تُستخدم صناعيًا أو طبيًا أو عسكريًا بالشكل الذي يُشاع.

أي تفاعلات كهربائية أو مغناطيسية تُفسَّر بأسباب فيزيائية بحتة تتعلق ببنية الماكينة المعدنية.

 

كما نفت شركة "سنجر" العالمية أن تكون أجهزتها قد احتوت يومًا على أي مادة غير تقليدية.

 

ماذا نتعلّم من قصة الزئبق الأحمر في مكائن الخياطة؟

 

تحمل قصة الزئبق الأحمر في مكائن الخياطة العديد من الدروس المهمة التي يجب التوقف عندها بتمعّن، ليس فقط لأنها حادثة غريبة، بل لأنها تكشف عن أنماط سلوكية متكررة في المجتمعات عند التعامل مع المعلومات الغامضة أو غير المؤكدة.

 

أول هذه الدروس هو قوة الشائعات وقدرتها على الانتشار السريع، خاصة في البيئات التي تغيب فيها الثقافة العلمية، وتنتشر فيها ثقافة "قالوا" و"سمعت". فقد انتقلت هذه الإشاعة من همسات فردية إلى ظاهرة مجتمعية خلال أيام فقط، مدفوعة بالفضول والرغبة في الربح السريع.

 

الدرس الثاني يتمثل في خطورة المعلومات غير الموثقة، إذ تؤدي مثل هذه المعلومات إلى قرارات متسرعة، وهدر للأموال، وأحيانًا إلى مشاكل اجتماعية حقيقية. إن تداول مثل هذه الإشاعات دون تحقق يمكن أن يؤذي الأفراد والمجتمعات على حد سواء، ويفتح المجال أمام الاحتيال والنصب.

 

أما الدرس الأهم، فهو أهمية التمسك بالتفكير العلمي والنقدي عند التعامل مع أي ادعاء غير مألوف. فالمعلومة الخارقة أو غير المنطقية يجب أن تُواجه بالتساؤل، والتقصي، والرجوع إلى المصادر العلمية الموثوقة، لا بالانقياد وراء العاطفة أو "القصص المتداولة". فغياب هذا الوعي يجعل المجتمعات أكثر هشاشة أمام الإشاعات وأقل قدرة على التمييز بين الحقيقة والخيال.

 

إن قصة الزئبق الأحمر ليست مجرد حكاية من الماضي، بل مرآة تعكس حاجة دائمة لبناء مجتمع أكثر وعيًا، وأقل قابلية للتأثر بالمعلومات المغلوطة.

 

رغم مرور سنوات على الحادثة، لا تزال قصة الزئبق الأحمر في مكائن الخياطة مثالاً حيًا على كيف يمكن لإشاعة صغيرة أن تتحول إلى ظاهرة مجتمعية ضخمة، تهز الأسواق، وتؤثر في السلوك العام.

 

فكلما كان الناس أكثر جهلًا بالمعلومة، كانوا أكثر عرضة للخديعة. إنها تذكرة قوية بأن العلم والوعي هما خط الدفاع الأول ضد الخرافة والاحتيال.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

Post Top Ad

الصفحات