منذ قرون حلم الإنسان بتسخير قوى الشمس والنجوم، واليوم، يقف العالم على أعتاب ثورة طاقوية جديدة يقودها ما يُعرف بالمفاعلات النووية الاندماجية (Nuclear Fusion Reactors).
هذه التقنية التي ظلت لعقود طويلة طموحًا نظريًا، بدأت تتحول في السنوات الأخيرة إلى حقيقة علمية بفضل التقدم في علم الفيزياء والمواد وتكنولوجيا الحوسبة. فهل نحن قريبون من عصر جديد يعتمد على طاقة نظيفة، وآمنة، وشبه لا نهائية؟
كتب المهندس أمجد قاسم
X@amjad
أولًا: ما هو الاندماج النووي؟ (What is Nuclear Fusion?)
الاندماج
النووي هو العملية التي تندمج فيها نوى الذرات الخفيفة – خاصة نظائر الهيدروجين
مثل الديوتيريوم (Deuterium) والتريتيوم (Tritium) – لتكوين نواة أثقل، مثل الهيليوم (Helium)،
وتحرير كمية هائلة من الطاقة.
هذه هي نفس العملية التي تولّد طاقة الشمس والنجوم منذ أكثر من 4.5 مليار سنة، وستستمر لمليارات السنين القادمة.
خلافًا للانشطار النووي (Nuclear Fission) الذي يعتمد على شطر نوى الذرات الثقيلة مثل اليورانيوم (Uranium-235) وينتج نفايات مشعة خطيرة، فإن الاندماج النووي لا ينتج نفايات نووية طويلة الأمد، ولا يهدد بحدوث كارثة إشعاعية، وهو بالتالي أكثر أمانًا ونظافة.
ثانيًا: أهم التحديات التي تواجه طاقة الاندماج
رغم بساطة المبدأ، فإن تحقيق الاندماج النووي على الأرض يتطلب ظروفًا بالغة القسوة، إذ يجب:
1. تسخين البلازما (Plasma) – وهي الحالة الرابعة للمادة – إلى درجات حرارة تتجاوز 100 مليون درجة سلسيوس، أي ما يعادل أكثر من 6 أضعاف حرارة لب الشمس.
2. التحكم بالبلازما، ومنعها من لمس جدران المفاعل باستخدام مجالات مغناطيسية قوية جدًا.
3. الحفاظ على استقرار البلازما لفترة كافية تسمح بإنتاج طاقة أكثر مما يُستهلك لتسخينها، وهي ما يُعرف بعتبة "صافي الطاقة الموجبة" (Net Energy Gain).
ثالثًا: مفاعل Wendelstein 7-X الألماني – نجم طاقة المستقبل
يُعد مفاعل فيندلشتاين 7-إكس (Wendelstein 7-X) واحدًا من أبرز مشاريع الاندماج النووي في العالم. تم بناؤه في معهد ماكس بلانك لفيزياء البلازما (Max Planck Institute for Plasma Physics) في ألمانيا، وهو من نوع "الستيلراتور" (Stellarator)، وهي هندسة مفاعلات تستخدم تصميمًا مغناطيسيًا معقدًا لحصر البلازما.
- استغرق بناء المفاعل حوالي 19 سنة، وتم تشغيله لأول مرة في عام 2015.
- يبلغ قطره نحو 16 مترًا، ويحتوي على حجرة مفرغة يتم فيها تسخين غاز الهيدروجين باستخدام الموجات الميكروية (Microwaves) أو أشعة الليزر.
- يعتمد على 50 مغناطيسًا فائق التوصيل (Superconducting Magnets) تزن 425 طنًا لتكوين "قفص مغناطيسي" (Magnetic Cage) يمنع البلازما من ملامسة الجدران.
- يتم تبريد هذه المغناطيسات إلى 270 درجة مئوية تحت الصفر باستخدام الهيليوم السائل (Liquid Helium).
أثبت المفاعل في 2016 قدرته على إنتاج بلازما وصلت حرارتها إلى 100 مليون درجة سلسيوس لمدة ثانية واحدة، وتم تمديد الزمن لاحقًا إلى 30 ثانية، مع العمل الحالي على استقرارها لنصف ساعة.
رابعًا: مفاعل ITER الفرنسي – أضخم مشروع اندماجي عالمي
يُعتبر المفاعل النووي الدولي ITER في فرنسا المشروع الأضخم عالميًا في مجال الاندماج النووي. وهو ثمرة تعاون دولي بين الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، الصين، روسيا، اليابان، كوريا الجنوبية، والهند.
- يُستخدم في هذا المفاعل تصميم "توكاماك" (Tokamak)، وهو مفاعل اندماجي يستخدم حقلًا مغناطيسيًا قويًا على شكل حلقي.
- عند اكتماله، سيقوم ITER بتسخين بلازما مكونة من الديوتيريوم والتريتيوم إلى درجة حرارة تصل إلى 150 مليون درجة سلسيوس.
- الهدف المعلن هو توليد طاقة اندماج بمقدار 500 ميغاواط من طاقة إدخال مقدارها 50 ميغاواط، أي بعشرة أضعاف ما يتم استهلاكه.
في عام 2025، تم الانتهاء من المرحلة التجريبية الثانية بنجاح، وبدأ اختبار التسخين المبدئي، تمهيدًا للوصول إلى تفاعلات اندماجية مكتملة في بداية العقد القادم.
خامسًا: إنجازات حديثة حتى عام 2025
شهدت الأعوام القليلة الماضية تقدمًا كبيرًا في تحقيق ما كان يُعد مستحيلًا:
1. إنجاز علمي في الولايات المتحدة – مرفق الإشعال الوطني (NIF)
في ديسمبر 2022، تمكن العلماء في مرفق الإشعال الوطني (National Ignition Facility) في كاليفورنيا من تحقيق ما يُعرف بـ "الاشتعال النووي" (Ignition)، حيث ولّد التفاعل طاقة خارجة أكثر من الطاقة المستخدمة لتسخين الوقود – لأول مرة في التاريخ. تم تكرار التجربة بنجاح لاحقًا في 2023 و2024.
2. مساهمة الذكاء الاصطناعي في استقرار البلازما
بحلول 2025، تم استخدام نماذج ذكاء اصطناعي (AI Models) قادرة على ضبط سلوك البلازما لحظيًا، وهو ما ساعد على تمديد أوقات الاستقرار الحراري وتقليل مخاطر الانفجار الداخلي أو فقدان التحكم المغناطيسي.
3. تطورات في مواد البناء
طورت مختبرات عالمية مواد جديدة فائقة المقاومة للحرارة والإشعاع تُستخدم في جدران المفاعل. من أبرزها سبيكة "التنغستن-كروم" (Tungsten-Chromium Alloy)، والتي تقاوم درجات حرارة تتجاوز 2000 درجة مئوية دون انهيار هيكلي.
سادسًا: مقارنة بين الانشطار والاندماج
العنصر |
الانشطار النووي (Fission) |
الاندماج النووي (Fusion) |
مصدر الوقود |
اليورانيوم أو البلوتونيوم |
الديوتيريوم والتريتيوم |
نوع التفاعل |
انقسام النواة |
اندماج نواتين |
النفايات |
عالية الإشعاع وطويلة الأمد |
شبه معدومة وقصيرة العمر |
الأمان |
خطر الانفجار الإشعاعي |
أكثر أمانًا بطبيعته |
الطاقة الناتجة |
عالية نسبيًا |
أعلى بكثير |
الاستخدام الطبيعي |
لا يحدث طبيعيًا |
يحدث في النجوم |
سابعًا: هل تصبح طاقة الاندماج متاحة تجاريًا قريبًا؟
رغم الإنجازات، لا تزال طاقة الاندماج في مرحلتها التجريبية، ويتوقع العلماء أن أول مفاعل اندماجي يُنتج طاقة كهربائية بشكل تجاري سيكون جاهزًا في الثلاثينيات من هذا القرن.
المفاعل الأوروبي DEMO،
المزمع بناؤه بعد نجاح ITER، سيكون المرحلة الانتقالية من المختبر إلى الشبكة الكهربائية.
إن الاندماج النووي لم يعد حلمًا بعيد المنال، بل تحول إلى سباق عالمي محموم لتأمين مستقبل الطاقة. فمع التقدم المتسارع في تكنولوجيا المواد، الذكاء الاصطناعي، والمغناطيسات فائقة التوصيل، فإن الإنسانية تقترب من تحقيق حلم الطاقة النظيفة اللامحدودة، تمامًا كما في قلب الشمس .
إنها ليست مجرد ثورة طاقوية، بل ثورة حضارية قد تعيد تشكيل علاقة البشرية بالبيئة، وتفتح آفاقًا جديدة للحياة على الأرض وربما خارجها .
اقرأ أيضا
تحوّلات صناعة الدواجن.. بين الكفاءة والإشكالات الأخلاقية
شجرة الفستق العريقة في القلمون تاريخ يعود إلى 1700 عام
أغلى المواد في العالم: قائمة بأكثر 16 مادة تكلفة
أوراق البردى والتي خلدت التاريخ الفرعوني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه