مدونة إضاءات

إضاءات مدونة ثقافية تعنى بالإبداع والابتكار والتنمية البشرية

اخر الأخبار

Post Top Ad

الأربعاء، 6 أغسطس 2025

تحوّلات صناعة الدواجن.. بين الكفاءة والإشكالات الأخلاقية

 


شهدت صناعة الدواجن تحوّلًا جذريًا خلال العقود الخمسة الماضية، حيث ارتفع متوسط حجم الدجاج المُربى للاستهلاك بنسبة مذهلة بلغت 364%. 

 

 كتب المهندس أمجد قاسم

 

في سبعينيات القرن الماضي، كان وزن الدجاجة المعدّة للذبح لا يتجاوز 900 غرام، أما اليوم فقد وصل هذا الوزن إلى أكثر من 4 كيلوغرامات.

 

هذا التحول ليس مجرد صدفة، بل هو نتاج منظومة زراعية وصناعية معقدة، قامت على أساس التربية الانتقائية، والهندسة الوراثية، وتحسين الأعلاف، واستخدام بيئات مُتحكم بها، وفي بعض الحالات، اللجوء إلى هرمونات النمو.

 

جميع هذه العوامل اجتمعت بهدف إنتاج دجاج أكبر حجمًا، خصوصًا في منطقة الصدر، لتلبية الطلب المتزايد من المستهلكين على لحوم بيضاء أكثر.

 

التطور التكنولوجي وتغيّر معايير الإنتاج

 

تعود الجذور الأساسية لهذا النمو الهائل في حجم الدجاج إلى التربية الانتقائية، حيث تم اختيار السلالات التي تنمو بسرعة وتُنتج كميات أكبر من اللحم.

 

واحدة من أبرز هذه السلالات هي "كورنيش كروس"، وهي سلالة هجينة صُممت خصيصًا لتحقيق أقصى معدلات نمو في أقصر فترة ممكنة.

 

ومع تقدم علم الوراثة، أصبحت هذه العمليات أكثر دقة وفعالية، مما سمح بخلق جيل جديد من الدواجن قادر على الوصول إلى أوزان عالية خلال أسابيع قليلة.

 

بالتوازي مع ذلك، أدّت التحسينات الكبيرة في الأعلاف إلى تسريع عملية النمو بشكل غير مسبوق. حيث أصبحت وجبات الدجاج مدروسة بدقة لاحتوائها على نسب محددة من البروتينات، والفيتامينات، والمعادن التي تضمن أقصى استفادة غذائية ونمو متسارع.

 

كذلك، ساهمت أنظمة التربية الحديثة، التي تعتمد على بيئات خاضعة لتحكم صارم في درجات الحرارة والرطوبة والإضاءة، في تقليل معدلات النفوق وتحقيق استقرار أكبر في الإنتاج.

 

الكفاءة على حساب الرفق بالحيوان

 

رغم ما يبدو من نجاح هذه المنظومة في تحقيق الكفاءة الاقتصادية والإنتاجية، فإنها لم تسلم من الانتقادات. فقد أثار هذا النهج الصناعي العديد من المخاوف المتعلقة برفاهية الحيوان. إذ إن النمو السريع وغير الطبيعي للدجاج أدى إلى مشاكل صحية جسيمة، مثل صعوبات في الحركة، وتشوهات في الأطراف، واضطرابات في وظائف القلب والرئتين، نتيجة عدم تناسب نمو العضلات مع تطور الهيكل العظمي.

 

كما أن الدجاج الذي يُربى في مزارع مكثفة غالبًا ما يُحرم من السلوكيات الطبيعية مثل الحفر أو التجوال، نتيجة حصره في أماكن ضيقة مكتظة، الأمر الذي يؤثر سلبًا على صحته النفسية والجسدية. وهذا ما دفع بعض منظمات الرفق بالحيوان إلى رفع الصوت عالياً، مطالبةً بإعادة النظر في طرق التربية الصناعية وإدخال معايير أكثر إنسانية.

 

جودة اللحوم وسلامة المستهلك

 

إلى جانب قضايا الرفق بالحيوان، هناك تساؤلات جدية حول جودة لحوم هذا النوع من الدجاج. فقد أظهرت بعض الدراسات أن اللحوم الناتجة عن سلالات سريعة النمو تحتوي على نسب أعلى من الدهون ونسب أقل من البروتين مقارنة بالدجاج التقليدي. كما تزداد فيها ظاهرة "اللحم الخشبي" (woody breast)، وهو مرض يصيب عضلات الصدر ويؤثر على طراوة وجودة المنتج النهائي.

 

أما فيما يتعلق باستخدام الهرمونات، ورغم أن العديد من الدول المتقدمة تحظرها رسميًا، إلا أن الشكوك ما زالت قائمة حول مدى التزام جميع المنتجين بهذه القوانين، خصوصًا في بعض الأسواق النامية. وبالتالي، تزداد مخاوف المستهلكين من احتمالية التعرض لمخلفات دوائية أو تأثيرات صحية على المدى الطويل.

 

البُعد البيئي واستدامة الإنتاج

 

الإنتاج المكثف للدواجن لا يخلو من أبعاد بيئية خطيرة. فالمزارع الصناعية تستهلك كميات ضخمة من المياه والحبوب، وتنتج كميات كبيرة من المخلفات والغازات المسببة للاحتباس الحراري.

 

ومع تزايد عدد سكان العالم وارتفاع الطلب على البروتين الحيواني، يصبح من الضروري البحث عن نماذج إنتاج أكثر استدامة تقلل من البصمة البيئية دون التضحية بجودة الغذاء أو رفاهية الحيوانات.

 

في هذا السياق، ظهرت دعوات لتبنّي ممارسات الزراعة العضوية أو أنظمة التربية المفتوحة التي تسمح للدجاج بالنمو بوتيرة طبيعية، وتقلل من التلوث البيئي، ولو على حساب الكلفة المرتفعة.

 

كما بدأ البعض بالترويج للحوم البديلة، سواء من مصادر نباتية أو من خلال الزراعة الخلوية، كحلول واعدة لمستقبل أكثر توازنًا.

 

مفترق طرق للصناعة

 

تقف صناعة الدواجن اليوم على مفترق طرق، بين السعي نحو مزيد من الكفاءة والإنتاجية، وبين ضرورة مواجهة التحديات الأخلاقية والبيئية المتزايدة. وبينما لا يمكن إنكار أن التحسينات الوراثية والتكنولوجية قد ساعدت في تلبية احتياجات السوق العالمي، فإن الوقت قد حان لإعادة تقييم هذا المسار.

 

فالاستهلاك الواعي من جهة، والتشريعات الأكثر صرامة من جهة أخرى، يمكن أن يساهما في توجيه الصناعة نحو خيارات أكثر استدامة ورحمة بالحيوانات، من دون أن نفقد ما تحقق من تقدم.

 

إن الحديث عن دجاج يزن أربعة كيلوغرامات ليس فقط مسألة أرقام، بل هو مرآة لتغيرات عميقة في طريقة تعامل الإنسان مع الغذاء والحيوان والبيئة.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل نريد أن يستمر هذا النمو بأي ثمن، أم أننا مستعدون للبحث عن توازن صحي وأخلاقي بين الإنتاج والاستهلاك؟

 

X@amjad

مدونة إضاءات | للتنمية الذاتية والمعرفة

 

اقرأ ايضا

 

شجرة الفستق العريقة في القلمون تاريخ يعود إلى 1700 عام

أغلى المواد في العالم: قائمة بأكثر 16 مادة تكلفة

أوراق البردى والتي خلدت التاريخ الفرعوني

شكل الأرض وأبعادها

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

Post Top Ad

الصفحات