مدونة ثقافية تعنى بالإبداع والابتكار والتنمية البشرية

اخر الأخبار

Post Top Ad

الجمعة، 4 سبتمبر 2009

التوتر والانفعالات العصبية وتأثيراتهما على الجهاز المناعي للإنسان

اطمئنان النفس‏ وتجنب التعرض للانفعالات الحادة يمكن الجهاز المناعي من القضاء علي الخلايا السرطانية في بداية تكوينها

الدكتور ‏.‏عبد الهادي مصباح *

لعل التجارب التي أجريت من أجل معرفة تأثير الانفعال والتوتر العصبي علي صحة الإنسان ـ وعلاقة ذلك وتأثيره علي الجهاز المناعي ـ كثيرة ومتعددة‏,‏ ففي جامعة بنسلفانيا وضعوا مجموعة من الفئران داخل قفص‏,‏ وظلوا يصعقونها بشحنات كهربائية متقطعة علي مدي النهار‏,‏ بحيث لا يستطيع أي منها ينعم بفترة استقرار نفسي لمدة طويلة‏,‏ وفي نفس الوقت ليس له مهرب من هذا التوتر العصبي والانفعال‏,‏ وتم تدوين الملاحظات والنتائج‏,‏ حيث حاولت الفئران في البداية الهرب‏,‏ ولما لم تجد لأنفسها مهربا‏,‏ استسلمت تماما للصدمات الكهربائية‏,‏ وكانت في حالة من اليأس والقنوط‏,‏ جعلت أعداد الخلايا الليمفاوية التائية‏,‏ التي تعد المايسترو بالنسبة لجيش الدفاع الإلهي المسمي بالجهاز المناعي تقل‏,‏ وتقل معها كفاءتها الوظيفية‏,‏ مما أدي إلي تعرض تلك الفئران للأمراض والأورام المختلفة‏,‏ والعدوى التي قضت عليها وأودت بحياتها‏.‏

وفي تجربة أخري في نفس الجامعة‏,‏ تم حقن الفئران بنوع من الخلايا السرطانية‏,‏ وتم وضعها في مكانين‏,‏ أحدهما لا يمكن للفئران فيه أن تهرب من الصدمات الكهربائية‏,‏ والآخر يمكن لبعض الفئران الهروب فيه من الصدمات الكهربائية إلي مكان آخر آمن‏,‏ وبالتالي فان الفئران التي لا تستطيع الهروب‏,‏ تتعرض لتوتر عصبي مستمر ودائم‏,‏ وتم متابعة الفئران من المجموعتين لرؤية من منها الذي سوف يكون أوراما سرطانية‏,‏ ومن الذي سوف يستطيع جهازه المناعي مقاومة نمو الخلايا السرطانية؟ وكانت النتيجة أن الفئران التي لايمكنها أن تهرب من الصدمات واليائسة‏,‏ هي التي كونت أوراما سرطانية‏,‏ وانتشرت هذه الأورام في أجسامها كلها‏,‏ بينما الفئران التي استطاعت أن تهرب من الصدمات إلي مكان آمن استطاع جهازها المناعي أن يحجم نمو الخلايا السرطانية‏,‏ ويقضي عليها‏,‏ فلم تكون أوراما سرطانية‏,‏ وفي الوقت نفسه استطاعت الفئران التي لم تأخذ أي صدمات كهربائية أن تتغلب علي الخلايا السرطانية‏,‏ ولم تكون أي أورام‏,‏ لانها لم تتعرض لاي نوع من الانفعالات والتوتر العصبي‏.‏

وربما لا يعلم الكثير منا أن من ضمن خلايا الجهاز المناعي‏,‏ خلايا مسئولة عن التصدي للخلايا السرطانية والإجهاز عليها‏,‏ وهي تسمي الخلايا القاتلة الطبيعية‏NKcells‏ ولكن بشرط أن يكون الجهاز المناعي في حالة جيدة‏,‏ وألا تكون الخلايا السرطانية في حالة الانقسام الشرس والعشوائي الذي لايمكن خلايا الجهاز المناعي من اللحاق بها لكي يوقف نموها‏.‏

ومن هنا نستخلص ان اطمئنان النفس‏,‏ وتجنب التعرض للانفعالات الحادة يمكن الجهاز المناعي من القضاء علي الخلايا السرطانية في بداية تكوينها‏,‏ وذلك علي الرغم من وجود عوامل أخري كثيرة تؤثر علي تكوين الاورام‏,‏ ومنها الوراثة والمواد المسرطنة مثل التدخين‏,‏ وغيرها من المواد العديدة التي تسبب الاصابة بالسرطان في أماكن مختلفة من الجسم‏.‏

وقد أثبتت التجارب التي أجريت علي الانسان أيضا‏,‏ تأثير الانفعال والتوتر العصبي علي تكوين الأورام السرطانية‏,‏ فقد أثبتت التجارب التي قام بها دكتور ستيفين لوك في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة‏,‏ أن نشاط الخلايا القاتلة الطبيعية‏NK‏ المسئولة عن التصدي للخلايا السرطانية يقل بشكل حاد‏,‏ وتقل معه موارد مناعية لها دور أساسي في مقاومة الخلايا السرطانية مثل مواد‏:‏ الإنترفيرون‏,‏ وإنترليوكين ـ‏2‏ وعامل تليف الاورام‏TNF‏ وغيرها‏,‏ عند التعرض للانفعالات سواء الحادة التي لايستطيع الانسان التكيف معها‏,‏ أو المزمنة المستمرة مع وجود التوتر العصبي مثل الاشخاص الذين يعتنون بمرضي ميئوس من شفائهم‏.‏

والحقيقة أن تأثر كل منا بالانفعال واستجابتنا له‏,‏ يختلف باختلاف طبيعة شخصية كل منا‏,‏ فهناك الشخصية الانهزامية المستسلمة التي لاتستطيع التكيف مع ما تواجهه من أسباب الانفعال‏,‏ وفي هذه الحالة يفقد الانسان السيطرة علي نفسه‏,‏ ويصاب بالاحباط‏,‏ مما يؤثر علي جهازه المناعي وقوته الجسمية‏,‏ بينما نجد في نفس الوقت ان الشخصية المثابرة والعنيدة والرافضة للهزيمة والمليئة بالايمان والامل‏,‏ لايتأثر جهازها المناعي كثيرا بما تواجهه من انفعالات‏.‏

ولنأخذ مثالا لهذا الكلام من خلال التجارب التي أجريت علي الحيوانات أيضا في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة‏,‏ فلو أخذنا مجموعة من الفئران‏,‏ ووضعناها مع بعضها البعض في قفص لفترة طويلة بحيث تصبح مجموعة متجانسة‏,‏ ثم أدخلنا فأرا آخر غريبا عن هذه المجموعة لكي يعيش معهم‏,‏ تري ماذا يمكن أن يحدث؟ في البداية يتفحص الفأر الغريب المجموعة التي يدخل عليها وهي تتفحصه‏,‏ ثم تبدأ في مهاجمته لكي يترك لها المكان باعتباره غريبا عنها‏,‏ وفي الغالب يهاجم أقوي الذكور هذا الغريب ويحاول ان يضايقه لكي يخرجه خارج القفص‏,‏ وفي البداية يقاوم الفأر الغريب بكل ما يملك من قوة وجهد حتي يصيبه اليأس من المقاومة‏,‏ فيأخذ جانبا من القفص يجلس فيه وحيدامنزويا شاعرا بالهزيمة‏,‏ وهذا الشعور بالهزيمة هو الذي يطلق عليه علماء النفس فقدان السيطرة أو‏Iossofcontrol‏ وعندما نأخذ هذا الفأر خارج القفص‏,‏ ونعيد في اليوم التالي نفس التجربة‏,‏ فان هذا الفأر سوف يأخذ وضع الهزيمة والاستكانة من أول دخوله للقفص دون أي مقاومة‏,‏ فقد أيقن أنه ليس في مكانه الصحيح‏,‏ وارتضي الهزيمة وساءت حالته النفسية‏,‏ وماذا كانت النتيجة؟

كانت نتيجة اليأس والشعور بفقدان الثقة‏,‏ والانفعال الحاد‏,‏ وتقبل الهزيمة‏,‏ هي ظهور قرح في أماكن متعددة في جسد هذا الفأر المهزوم‏,‏ وتبين من تحاليله زيادة إفراز هرمون الكورتيزول والادرينالين الخاص بالانفعالات وزيادة نسبة السكر في دمه‏,‏ وانخفاض حاد في عدد خلايا الجهاز المناعي الليمفاوية ووظائفها وكفاءتها‏,‏ وانهيار قوته البدنية والجسدية‏.‏

ومن هنا ومن تجارب أخري خرج العلماء باستنتاج في غاية الاهمية‏,‏ وهو أنه ليس المهم أن تتعرض للفشل أو الانفعال الحاد‏,‏ ولكن المهم أن تملك الايمان واليقين بأنك سوف تتجاوز هذه الهزيمة أو هذا الفشل أو هذا المرض‏,‏ وفي هذه الحالة فانك تملك زمام نفسك وتسيطر عليها‏,‏ وسوف تقوم بعد سقوطك وعثرتك‏,‏ فهذا اليقين الايماني هو الوحيد القادر علي صد ما نواجهه من صدمات وأزمات الحياة المختلفة التي تصيبنا‏,‏ وتسبب انفعالاتنا واحباطنا وربما يأسنا‏.‏

وهكذا يتبين لنا قيمة الايمان وروعته كي نستطيع ان نتكيف مع الصدمات التي تقابلنا‏,‏ دون أن تحدث لنا اصابات جسيمة وعاهات مستديمة‏,‏ وكيف لا؟ ونحن نعلم ان هذه الصدمات إنما هي ابتلاء من الله سبحانه وتعالي‏,‏ وسوف نثاب عليها اذا صبرنا وتقبلناها لانها من عند المولي عز وجل‏,‏ وكيف لا؟ ونحن نرمي أحمالنا علي ملك الملوك ذي القوة المتين‏,‏ الذي يملك كل شيء‏,(‏ إنما امره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون‏)‏ سورة يس وكيف لا؟ وهو منا قريب يطلب منا ان ندعوه فيستجيب لنا‏(‏ واذا سألك عبادي عني فاني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان‏)‏ ولكن بشرط‏(‏ فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون‏)[‏ سورة البقرة‏]‏ وانظر إلي حكمة الله سبحانه وتعالي وروعته وهو الخالق والاعلم بخلقه وبخبايا نفوسهم‏,‏ عندما يتولي مهمة الطبيب النفسي الأعظم‏,‏ فيجعلنا نلجأ إليه في حالات الاضطرار‏,‏ واذا ما أغلقت في وجوهنا كل الأبواب‏,‏ ليس هذا فحسب‏,‏ بل انه يزيد من قربنا منه واستجابته لدعائنا في مثل هذه الحالات من الاضطرار‏,‏

فيقول جل شأنه‏(‏ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء‏)[‏ سورة النمل‏]‏ أو في حالات الضعف والاستكانة فيقول الرسول الكريم دعوة المظلوم ليس بينها وبين السماء حجاب أي أنها مستجابة دون وسيط‏,‏ منتهي الروعة والفهم من صانع الصنعة لصنعته‏,‏ لكيلا يقع الانسان فريسة لليأس والإحباط والقنوط كلما أشتد به يأس‏,‏ أو زاد عليه كرب‏,‏ أو لحق به ظلم‏.‏

* عضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

Post Top Ad

الصفحات