مدونة إضاءات

إضاءات مدونة ثقافية تعنى بالإبداع والابتكار والتنمية البشرية

اخر الأخبار

Post Top Ad

الاثنين، 12 أبريل 2021

إيليا أبو ماضي.. شاعر المهجر وصوت الأمل في زمن الغربة



في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدًا عام 1889، أبصرت عيناي شاعر المهجر الكبير إيليا أبو ماضي النور في بلدة المحيدثة القريبة من بكفيا في جبل لبنان. 

 

نشأ في بيئة جبلية هادئة، بين طبيعة خضراء وسماء صافية، الأمر الذي ترك بصماته الأولى على حسه الشعري المرهف. تلقى علومه الابتدائية في قريته، وكان منذ صغره مولعًا بالكلمة الجميلة واللحن العذب الذي تصوغه الطبيعة في شكل قصيدة.

 

لكن الحياة لم تكن رحيمة، فقد أجبرته الظروف الاقتصادية الصعبة على الرحيل مبكرًا. ففي عام 1900، وكان لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، غادر لبنان متوجهًا إلى مصر بحثًا عن فرصة أفضل. هناك عمل بائعًا للسجائر لفترة، قبل أن يجد طريقه إلى الصحافة، حيث انطلقت أولى خطواته نحو عالم الأدب. وفي القاهرة، نمت موهبته الشعرية وبدأ اسمه يلمع، فأصدر أول دواوينه بعنوان "تذكار الماضي"، وهو عمل يجمع بين الحنين للوطن والتأمل في الحياة، ليعلن عن ولادة شاعر جديد.

 

عشر سنوات قضاها في مصر كانت بمثابة المرحلة التأسيسية في مسيرته، قبل أن يقرر في عام 1911 شدّ الرحال إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ضمن موجة الهجرة التي شملت عددًا من المثقفين العرب. استقر بدايةً في ولاية أوهايو، حيث عمل في التجارة لفترة، لكن شغفه بالأدب والصحافة تغلّب على انشغاله بالرزق، فانخرط في الوسط الثقافي للمهاجرين العرب.

 

في نيويورك، انضم أبو ماضي إلى الرابطة القلمية التي أسسها نخبة من أدباء المهجر، ومن أبرزهم جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة. هذه الرابطة كانت منصة للتجديد في الشعر العربي، والخروج عن القوالب التقليدية نحو آفاق أوسع من التعبير الإنساني والفلسفي. وفي عام 1919، أصدر ديوانًا حمل اسمه، وكتب له جبران مقدمة احتفت بموهبته. ثم أتبع ذلك بديوان "الجداول" عام 1925 بمقدمة لنعيمة، حيث ظهر فيه ميله الواضح للتأمل في الكون والطبيعة.

 

لم يكن أبو ماضي شاعرًا فحسب، بل كان أيضًا صحفيًا مؤثرًا. ففي عام 1929 أسس مجلة "السمير" التي بدأت نصف شهرية، ثم تحولت عام 1936 إلى صحيفة يومية، واستمرت حتى وفاته. كما عمل محررًا في صحيفة "مرآة الغرب"، التي كانت منبرًا لأصوات العرب المهاجرين في أمريكا. وفي عام 1940 أصدر ديوانه الرابع "الخمائل" الذي عزز مكانته كأحد أبرز شعراء الرومانسية في الأدب العربي.

 

أدب أبو ماضي: بين الفلسفة والطبيعة

 

تميزت تجربة أبو ماضي الأدبية بملامح فريدة جعلت منه رمزًا من رموز أدب المهجر. فقد أتاحت له إقامته في الولايات المتحدة فرصة الاطلاع على الأدب الغربي، مما أثرى فكره وفتح أمامه آفاقًا جديدة في التعبير الشعري. هجر الأغراض التقليدية المألوفة كالمديح والهجاء، وركز على التأمل في الكون والحياة، وعلى الدعوة إلى الخير والجمال والمحبة.

 

ومن أبرز سمات شعره:

  1. الوحدة العضوية والفنية، حيث تتكامل أبياته في نسق متماسك.

  2. النزعة الفلسفية التي تتأمل في الوجود والمصير.

  3. الرمزية التي تحمل المعاني العميقة خلف الصور الشعرية.

  4. الغناء في الطبيعة والامتزاج بها، مع إيمان بالمساواة بين جميع المخلوقات.

  5. التحرر من الأوزان والقوافي التقليدية أحيانًا، بحثًا عن موسيقى داخلية هادئة تعرف بـ"الهمس".

  6. الحنين للوطن، الذي ظل يسكن قلبه رغم سنين الغربة.

  7. البساطة في الألفاظ مع الابتعاد عن الابتذال، مما جعل شعره قريبًا من القارئ العادي والمثقف على حد سواء.

  8. النزعة الإنسانية التي تتخطى الحدود الجغرافية لتخاطب الإنسان أينما كان.

 

رسالة شاعر المهجر

 

لم يكن إيليا أبو ماضي مجرد شاعر يكتب للتسلية، بل كان يحمل رسالة إنسانية كبرى. في أشعاره، تتجلى دعوة واضحة للسلام الداخلي والتسامح بين البشر، ونبذ التعصب والكراهية. كانت الغربة بالنسبة له مدرسة قاسية علمته قيمة الانتماء، فجعل من شعره جسرًا يصل بين أوطان العرب وقلوب المغتربين.

 

كما أن بيئته اللبنانية الأولى زرعت فيه الميل إلى الحرية والاعتداد بالذات، بينما منحه أدب المهجر روح التجديد والجرأة في التعبير. ولعل هذا المزيج هو ما جعل أشعاره تعيش حتى اليوم في قلوب القراء، وتُلهم الأجيال الجديدة بالبحث عن المعنى والجمال وسط صخب الحياة.

 

الرحيل والإرث الأدبي

 

رحل أبو ماضي عن عالمنا في نيويورك عام 1957، بعد حياة حافلة بالعمل الأدبي والصحفي. لكن موته لم يكن نهاية صوته الشعري، إذ صدرت بعد وفاته مجموعة "تبر وتراب" التي ضمت قصائد لم تنشر في حياته. واليوم، لا يزال إرثه حاضرًا في المناهج الدراسية والندوات الأدبية، ويُستشهد بأبياته في كل مقام يدعو إلى التفاؤل والأمل.

 

لقد كان إيليا أبو ماضي بحق "شاعر الأمل"، لا لأنه تجاهل صعوبات الحياة، بل لأنه اختار أن يرى النور وسط الظلام، وأن يزرع في قصائده بذور المحبة التي لا تموت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه

Post Top Ad

الصفحات