قصة "الكون 25" التي أرعبت علماء الاجتماع والنفس
ماذا لو عشنا في جنة على الأرض؟
تخيل
عالماً مثاليًا لا جوع فيه، لا خوف، لا مرض، لا تهديد، لا صراعات.. فقط راحة ووفرة
بلا حدود! قد يبدو الأمر كحلم جميل، أو مدينة فاضلة ينتظرها البشر منذ الأزل.
لكن، ماذا لو أخبرتك أن هذا الحلم، حين تحقق لفصيلة من الكائنات، أدى إلى انهيارها التام، وموتها الجماعي؟
هذا
ما حدث بالفعل في تجربة علمية صادمة قادها عالم النفس الحيواني الأمريكي جون
كالهون
(John B. Calhoun)
في سبعينيات القرن
الماضي.
تجربة حملت اسمًا بسيطًا لكنه مرعب في نتائجه: Universe 25 – الكون 25.
بداية التجربة: جنة الفئران
في عام 1970، أقام كالهون بيئة مغلقة للفئران، تم تصميمها بعناية لتوفر كل ما يمكن أن تحلم به هذه الكائنات:
- طعام وماء بلا حدود.
- درجة حرارة مناسبة وثابتة.
- غياب تام للأعداء والمخاطر.
- أقفاص واسعة مقسّمة لمناطق معيشة ومبيت وتكاثر.
تم إدخال 4 أزواج فقط من الفئران (ذكرين واثنتين من الإناث)، وبدأ العدّ التنازلي لمراقبة ما سيحدث لمجتمع يعيش في "الكمال".
في
البداية، كان كل شيء على ما يرام.
الفئران تكاثرت
بسرعة، وبدأت تعمر المكان، ووصل عددها إلى 315 فأرًا خلال أشهر قليلة.
الانقلاب الصامت: حين بدأت الفوضى
لكن
مع الوصول إلى هذه المرحلة، بدأت الأمور في التغيّر.
لوحظ تراجع في معدلات التكاثر، وظهور سلوكيات اجتماعية مقلقة:
- الانعزال الاجتماعي: بعض الفئران بدأت تبتعد عن المجموعات.
- تكوين طبقة "البؤساء": وهي مجموعة من الفئران الصغيرة الضعيفة، التي كانت تتعرض باستمرار لهجوم من الفئران الأكبر.
- الذكور فقدوا وظائفهم الطبيعية: لم يعودوا قادرين على التزاوج، ولا الدفاع عن أنفسهم أو إناثهم.
- الإناث فقدن غرائز الأمومة: فصرن يتركن صغارهن أو يهاجمن صغار الإناث الأخريات.
والأسوأ أن معدل الوفيات بين الفئران الصغيرة ارتفع تدريجياً إلى 100%، بينما انخفض معدل الولادات إلى 0%.
سلوكيات شاذة ونهاية المجتمع
مع تزايد الأعداد إلى حوالي 600 فأر، بدأت تظهر سلوكيات غير طبيعية:
- السلوك العدواني الشديد: اقتتال عنيف بين الفئران بلا أسباب منطقية.
- أكل لحوم بعضهم رغم توفر الطعام.
- السلوكيات الجنسية المنحرفة: بما في ذلك المثلية بين الذكور، وانعدام الرغبة الجنسية لدى بعض الفئران.
- اللامبالاة والانطواء: بعض الفئران انسحبت كليًا من الحياة الاجتماعية، وعاشت حياة منعزلة "بلا هدف"، وسمّاهم كالهون: "الجميلون" (Beautiful Ones)، لأنهم كانوا فقط يهتمون بنظافتهم ومظهرهم ولا يشاركون في الحياة المجتمعية.
وفي عام 1973، وبعد مرور أكثر من عامين على بدء التجربة، نفق آخر فأر في هذه الجنة المزعومة.
تم تكرار التجربة 25 مرة... والنتيجة واحدة!
ما
يجعل هذه القصة أكثر رعبًا هو أن تجربة "الكون 25" لم تكن الوحيدة.
كررها كالهون
وفريقه 25
مرة مع تغييرات طفيفة
في المكان أو التوقيت، لكن النتيجة ظلت واحدة:
الانهيار الكامل للمجتمع في ظل الرفاهية المطلقة.
تأملات مرعبة: ماذا تعني هذه التجربة للبشر؟
رأى العديد من علماء النفس والاجتماع في هذه التجربة تشبيهًا مخيفًا لمستقبل الإنسان إذا استمر في طريق الراحة والرفاهية المطلقة:
- عندما يغيب التحدي، تضعف الغرائز.
- عندما يضمحل الخوف، تفقد القيم قوتها.
- وحين تختفي الحاجة، يختل التوازن الطبيعي بين الأفراد.
تمامًا
كما حدث للفئران، يمكن أن تؤدي الوفرة الكاملة إلى فقدان المعنى، وضياع الهدف،
وانهيار الروابط الأسرية والاجتماعية.
وهو ما قد يفسّر
بعض الظواهر الحديثة في المجتمعات المرفهة من عزلة، واكتئاب، وعنف بلا مبرر، وحتى
زيادة في السلوكيات الشاذة.
رسالة من الطبيعة... وسؤال مفتوح
تجربة "الكون 25" ليست مجرد تجربة بيولوجية، بل هي مرآة مخيفة لما يمكن أن يحدث حين نغفل عن أن الإنسان، كغيره من الكائنات، بحاجة إلى التوازن:
بين الكدّ
والراحة، بين الخطر والأمان، بين الحافز والنتيجة.
وقد لخّص القرآن الكريم هذه الفكرة في آية عظيمة:
﴿وَلَوْ
بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ﴾ [الشورى: 27]
إنه تذكير بأن التحديات ليست شرًا دائمًا، وأن "النقص" أحيانًا هو الذي يحفظ التوازن ويحمي المجتمعات من الانهيار.
هل نحن على أبواب كون 26؟
في ظل التكنولوجيا المتسارعة، وسبل الراحة المتزايدة، والتحولات الاجتماعية العميقة، قد يكون سؤال "كالهون" القديم أكثر إلحاحًا اليوم:
ماذا يحدث لمجتمع يُمنَح كل شيء... دون أن يُطلب منه شيء؟
فلنأخذ العبرة من فئران "الكون 25" قبل أن نصبح نحن وقودًا لـ "الكون 26".
أمجد قاسم
X@amjad
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ادعم إضاءات بالتعليق على المواد المنشورة واعادة نشر موادها في شبكاتكم الاجتماعية
سيتم نشر التعليق بعد الاطلاع عليه